جزء سابع من سلسلة توثيق كتابات الصحافي البارز محمد باهي، صدر عن منشورات باب الحكمة، في إطار مشروع يجمع أوراقه عنوان “يموت الحالم ولا يموت حلمه”.
هذا الجزء الذي أصدره الفاعل الحقوقي مبارك بودرقة، وجمعه وعلق عليه الباحث محمود الزهي، يهتم بنظرات باهي في السياسة الدولية بين سنوات 1959 و1962، التي نشرت آنذاك في جريدة “التحرير” قبل حظرها.
وبعد صدور مقالات “رسالة باريس” في خمسة أجزاء، وثق الجزء السادس إنتاجات صحافية كان فيها باهي شاهدا على لحظات محورية في النضال الجزائري من أجل الاستقلال، وتأدية المناطق الشرقية المغربية ثمن التضامن مع هذه الثورة ضد الاحتلال الفرنسي، وتلاها الجزء الجديد الصادر في السنة الجارية 2023.
يضم هذا الجزء حوارات مع الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة، ووزير الأنباء الجزائري آنذاك محمد يزيد، وسفير تونس بلندن الطيب سليم، وتحليلات حول “انتصار لومومبا”، والراهن الأمريكي في عهد الرئيس كينيدي، والمعارضة في البرتغال وإيران، والهدف البعيد للصهيونية، وأمريكا اللاتينية، ويوغوسلافيا سابقا، وفيتنام الجنوبي، ومالي، والجزائر التي كانت ماتزال محتلّة، والمستقبل العربي، و”التخلف الفكري”، و”البغاء الثقافي”.
وفضلا عن عمق تحليلاته وكتاباته الصحافية وقيمتها التاريخية، عرف محمد باهي أيضا بموقفه المنتصر للوحدة ضد الانفصال، الموثق في مقال صدر بالجزء السادس بعنوان “لا تجعلوا لينين موظفا عند فرانكو”، بعدما استدعاه الرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين مقترحا عليه أن يكون رئيسا للجمهورية الصحراوية.
ووفق المؤرخ الطيب بياض، فإن “مرجعية كتابات باهي لا تقتصر على الزمن الراهن المغاربي”، بل تمتد إلى “فهم السياسة الخارجية الفرنسية، وتحليل السياسات العالمية”، لأنها صادرة عن “كاتب مهم مطلع على مادة مصدرية ومرجعية من الأهمية بما كان”.
ويتحدث الحقوقي امبارك بودرقة في الجزء الجديد الموثّق لكتابات باهي عن “نبوغه المبكر”، وقال: “باهي حرمة صال وجال في جغرافية الكون وفي فعل التدوين المواكب لهاته الرحلات، بعد أن ولج هذه التجربة متسلحا بزاد معرفي مصدره التهام المتون منذ زمن “المحظرة”، حيث العصامية في التكوين دون ولوج المدارس، وعتاد فكري صقلته قراءات متنوعة بنَفَس موسوعي. مما جعله يحظى بالتقدير والاحترام في حله وترحاله”.
ومن بين ما يرد في الكتاب شهادات عن محمد باهي حرمة، وكتابته، حيث ذكر الأديب عبد الرحيم المودن أن “أدبية” الكتابة عنده “مستندة إلى الهاجس التوثيقي، قبل غيره، مطعما الهاجس التوثيقي بمحطات مميزة تحكمت في النص المكتوب”، مثل الشعر الذي كان لديه عنصرا وظيفيا في المقال المنشور، والحكمة والمثل التي تتفاعل فيها “جدية التاريخ ومكره”، والجغرافية؛ لأنه كان “رحالة زمنه، بالمعنى المادي والمجازي”.
وكتب الأستاذ الجامعي أحمد السطاتي أن الباهي هو “القارئ، الكاتب، المطلع، الخبير بقضايا العصر وإشكالاته، الصحافي المتألق والمتوافق الذي يتوهج في كتاباته عمق التحليل وبلاغة التبليغ ويتآخى الإمتاع بالإقناع، الوطني الغيور الذي شهر سلاحه وقلمه في وجه خصوم الوحدة وأعداء التحرر والتقدم، كل ذلك شد إليه جمهورا واسعا في الداخل والخارج ظل يرمقه بتقدير وإعجاب”.
وتابع أن باهي “من القلائل الذين انخرطوا شبابا في صفوف المقاومة وجيش التحرير دفاعا عن وحدة التراب، ثم اغتربوا في ديار الله شرقا وغربا حفاظا على نقاوة الضمير وتحصينا لشرف الكلمة من إغراءات الترغيب وإكراهات الترهيب.”
ثم “عندما سمح له بالعودة لأرض الوطن بعد منتصف الثمانينات، نصحته جهات بتقديم طلب للحصول على امتياز مشروع يكافئ جهاده كواحد من قدماء جيش التحرير في الجنوب، لكنه تأبى أن يساوم بفاتورة نضاله النظيف والشريف حتى وهو يعلم أن المثيرين نالوا ما لا يستحقون وأكثر مما يستحقون مقابل تقديم فواتير مزورة”، دون أن يكون “هذا التعفف ناشئا عن يسر أو بساطة في العيش”.
أما بلال الحسن الذي ترأس تحرير مجلة “اليوم السابع”، فقد كتب بعد امتداح عذوبة لغة وجمال باهي، وعادات كتابته المستعصية عن الإدراك، أنه “أحد النماذج المبكرة لإدراك عمق الارتباط بين المشرق والمغرب. وهو إذا تحدث عن لبنان أو سوريا أو عن العراق، لحسبته قد قضى حياته في الموصل أو في حلب أو في بعلبك. فقد كان يعرف كل هذه البلدان كما يعرف بلده المغرب. ولذلك كان بحق “قوميا” أصيلا، إنما أبعد ما يكون عن نظريات القوميين وأطروحاتهم، وكثيرا ما كان يردد أنهم يطرحون قومية مشرقية، لا صلة لها بإسلام السعودية واليمن، ولا صلة لها بخصوصية التراث البربري في المغرب”.
ثم كتب: “هذا البدوي المشاء، المعتزل، الحرون، كان حاضرا في كل عمل سياسي في باريس، كان موجودا دائما في العمل الوطني الفلسطيني، وموجودا دائما مع اللبنانيين ومآسيهم، وبقدر ما كان مغرما بالعزلة، كان معروفا من جميع العرب القادمين إلى باريس من أجل هدف ما، أو من أجل قضية يعنيه أمرها. وهذا المغربي المشاء الحرون، كان شهيرا بين هؤلاء، وكان الكل صديقا له، وكان هو صديقا للجميع، خدمهم جميعا، أخذ بيدهم جميعا، دون مقابل، اكتفى منهم بالمحبة والود وحرارة الاستقبال والسلام”.
المصدر: وكالات