8/12
الملحون “ديوان المغاربة” الذي يعكس غنى رؤاهم وتوجهاتهم ومعيشهم وتجاربهم، ويختزل كل ذلك في قصائد شفهية ومكتوبة بدارجة رفيعة مقفاة تمدح الرسول، أو تعظ الناس وتشاركهم الحِكَم، أو تنبههم إلى الأخلاق المذمومة، كما تتغزل أو تتغنى بالجمال أو بما تشتهيه الأنفس.
لجنة الملحون، التابعة لأكاديمية المملكة المغربية، جمعت في سلسلة “التراث” أبرز دواوين الملحون المغربيّ وأعدتها، فوضعت “موسوعةُ الملحون” على الرفوف، منذ ثلاث سنوات، الجزء الحادي عشر الذي نظمه الفقيد الحاج أحمد سهوم، ليجاور دواوين: عبد العزيز المغراوي، والجيلالي امتيرد، ومحمد بن علي ولد ارزين، وعبد القادر العلمي، والتهامي المدغري، وأحمد الڭندوز، وأحمد الغرابلي، وإدريس بن علي السناني، والمولى عبد الحفيظ، ومحمد بن علي المسفيوي الدمناتي.
تروم سلسلة هسبريس هذه تقديم بعض من قصائد الملحون المغربية، وناظميها، وبيان عمق مضامينها، وما تحمله من غنى، انطلاقا من العمل التوثيقي المعنون بـ”موسوعة الملحون” الذي أشرف عليه عضو أكاديمية المملكة المغربية عباس الجراري وعدد من الخبراء والمتخصصين.
شاعر مبدع في المعرب والملحون
إدريس بن علي المالكي “أحد أكبر أشياخ الملحون، ومن أبرز أعلام الفكر والأدب في المغرب خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي، إذ كان عالما مؤلفا وكاتبا بارعا وشاعرا مبدعا في المعرب والملحون”.
وتنقل موسوعة الملحون ما كان له من اتصال بالسلطان الحسن الأول الذي قال عنه ابن إبراهيم إنه كان معجبا بملحونه، وإنه كافأه مرة على قصيدة ساعدته على حل مشكل خاص كان يواجهه، وتعود إلى “لجاج بين العلامة مولاي الكامل المراني وزوجته الشريفة المصونة السيدة فضيلة أخت المولى الحسن” التي “ذهبت عند أخيها وامتنعت من الرجوع عند زوجها بعد أن راودها بجميع أنواع الملاطفات، وبقيت ناشزا حولا كاملا، فعمل المترجم قصيدة من الملحون على لسان زوجها يستعطفها بذلك. فبمجرد ما وصلتها وعرفت ما فيها رجعت عند زوجها وطاب خاطرها عنه”.
وأورد الأكاديمي عباس الجراري أن الباحث عبد القادر زمامة قد ذكر، في مقال له عن السناني، أنه كان إلى جانب اشتغاله بالخرازة لكسب لقمة العيش “شغوفا بمجالس العلم ومحافل الذكر في الزوايا والمساجد، ومصاحبة المنشدين والذكارة وأشياخ الشعر الملحون. وكان أثناء مزاولته لعمله في الخرازة بفندق الشماعين الشهير يرفع عقيرته بإنشاد الأزجال والبراول والأمداح النبوية والقصائد الصوفية التي سمعها وحفظها”.
وتابع أنه “عند شعراء الملحون قمة، وعند الذكارة إسوة، وعند المتصوفة قدوة. ولا تخلو كناشة من كناشات معاصريه من إلمام بهذا الشاعر الذي تجاذبته في حياته اتجاهات وسبل عديدة، وأسهم فيها كلها بحظ وافر من سلوكه الشخصي وإنتاجه الأدبي”، كما قال إنه “اشتهر عند أشياخ الملحون بأذكاره العيساوية إلى حد لقب بـ(ذكار عيساوة)”، وهو اللقب الذي “جعل السناني يضرب صفحا عن الانتماء إلى العلم، أو الظهور بمظهر العلماء؛ بل إنه صار يحرص كل الحرص على أن يكون سمعة وصيتا في طبقة أخرى من ذوي الأريحية والوجاهة والجاه من أمراء وشرفاء وبعض العلماء والشعراء وذوي السلطة النفوذ. ووسيلته دائما هي شعره وما يملك من قدرة على الحديث الممتع والسمر المؤنس. وبذلك لا يعد في العوام ولا يوصف بكونه ذكار عيساوة فقط بل هو الشاعر الأديب”.
ولم يقتصر السناني على مدح عيساوة؛ بل مدح أبا العباس السبتي، وسليمان الجزولي، وسيدي بوسرغين، والسلطان الحسن الأول.
ومن بين من كتب حوله، حسب الجراري، عبد الله كنون في “أحاديث عن الأدب المغربي الحديث”، الذي أورد أبياتا للسناني في وصف روض بدأها بقوله: “روض يروق الناظرين بهيج / سيان فيه الزهر والزليج”، وعلق عليها بقول: “هذه الأبيات مما تلوح عليه آثار المغربية، فإن لفظ الزليج من الأوضاع التي لا تستعمل إلا في المغرب… وهي من الشعر الرائق الذي يطابق الوصف فيه الموصوف حسنا وجمالا”.
كما أورد عباس الجراري ما أورده محمد الفاسي في “معلمة الملحون” حول إدريس بن علي: “من أكبر شعراء فاس، شعره رقيق وقد اشتهر في سائر أطراف المغرب”.
ووفق زمامة، فإن هذا الشاعر، الذي ودع الحياة سنة 1901، يقول ولده الشيخ محمد الراضي إنه لم يرحل إلا “بعدما حج وجاهد وانقطع للذكر والعبادة… بمسجد سيدي يعلى بالطالعة الكبرى (فاس) حيث كان يسرد كتب الوعظ ويجتمع حوله أصدقاؤه ورفقاؤه”.
ومن مصنفاته، ديوانه “الروض الفائح بأزهار النسيب والمدائح”، و”رسالة التذكير ببعض ما يجب على الفقير”، و”تأنيس المسجونين وتنفيس المحزونين”، و”نزهة الأعيان وتبصرة الإخوان في تبيين ما بني عليه مقام الإحسان”، وتأليف في الصلاة على النبي ﷺ على نسق دلائل الخيرات.
ديوان مثير للانتباه
يضم هذا الديوان مجموع ما أمكن الوصول إليه من قصائد الشاعر بن علي السناني، وعددها مائة قصيدة واثنتان إحداها مبتورة، وتغلب عليها قصائد العشق، ثم “العيساويات”، فـ”التصليات”، و”مدائح آل البيت”، ثم قصائد “المرسول” و”الورشان” والهجاء، وتؤرخ إحدى قصائد الديوان، بعنوان “التطوانية” للحرب بين المغرب وإسبانيا، في القرن التاسع عشر، سنة 1859 والإحساس بالضعف والتطلع للثأر والنصر، ودعوة لعدم الغفلة والاعتبار من “غرناطة”.
ويضم هذا الديوان قصيدة مثيرة للاهتمام عنوانها “اللوطية” ينافح فيها عن فطرة زواج النساء في مقابل تفشي المثلية، وفيها هزلٌ، وحديث عن ظاهرة قُدِّمت مُطبَّعا معها، وتوثيق لمفردات تعدّ نابية بالعامية المغربية.
وذكرت لجنة إعداد موسوعة الملحون أنها قد ترددت في إدراج هذه القصيدة بالديوان “لما فيها من تهتك وإباحية وفحش، ولكنا رأينا في نهاية الأمر أن موضوعية جمعه تحتم عدم إهمالها، باعتبارها دالة على مرحلة من حياة الشاعر (…) وإن ذهب في القسم الأخير من القصيدة إلى أنها من باب التفكه والمزاح والترويح عن النفس”.
وسجل عباس الجراري أن “السناني في قصيدته (اللوطية) لم يكن فقط يتحدث عن واقع عاينه في مجتمعه، ولكنه كان كذلك يساير، إن لم أقل ينافس – بالتعبير الشعري الشعبي – صديقه مولاي أحمد بن المامون البلغيثي الذي كتب (تشنيف الأسماع في أسماء الجماع وما يلائمه من مستلذ السماع)، مستعرضا فيه جوانب لغوية ومسائل فقهية ولطائف أدبية ونوادر متصلة بالموضوع لم يتحرج من ذكرها وتفصيل القول فيها، على ما تتضمنه من فحش”.
ويضم هذا الديوان رائعة إدريس بن علي السناني “فاطمة” المعروفة بـ”الغزال فاطمة”، التي تعد من عيون شعر الغزل.
من ملحون “الحنش”
يقول إدريس بن علي المالكي في “فاطمة”: “وهو يا سيدي خَدِّي انفَرْشُه بالشُّوقْ لدُوكْ القْدامْ / وانْقُولْ لك أمولاتِي زَطْمي / أللِّي داويتي جَسمي // أمْرِي بالعَزْمْ وحُكْمِي / ولا اتْحَشْمي // وانشوفَك ألباهية قُدّامِي / والرّقيب بَصْرُه عامي // والزمانْ في غَفْلَة وأنا امْعاكْ تَحْت اخْيامْ الليل المخَيْمَة”.
وفي ما بين الهزل والغزل، يُقرأ في “الكاس”، “حربتها” أو لازمتها: “كيف اجْرى لي يا أهل الهْوى في حضْرة سلطانة النسا الغْزال أم الغيثْ / والشريفْ العدرة الواسْمَة / مُلوكْ الزِّين بينهم ضعْت في كاسِي”.
ويقول الشاعر في القصيدة: “قَبلي عُدْري يا المالْكانِي طولي فيّ إلا اتْصَبْتْ امْعاكْ أوتيتْ / أو ابْشَرْتْ في ذا المْخاصْمة / الحقّ إيبان يا الغُصن الميّاسي // لمّا حازَت راحَةْ العقَلْ الهديّة من كفّكْ السعيد على القوم عليت / واشْكَرْتْ الرّاحة النّاعمة / وارْفَعْتْ الكاسْ فوق العيونْ وراسي”.
ويمدح السناني شيخ التصوف والملحون عبد القادر العلمي قائلا: “سيدي قدُّور اعنايتي وحُرْمِي عامَلْني بالقبُول وانظَر تدْمامي / ما ضاعَت دمَّة عند حيكم يا آل المبرورْ // سيدي قدُّور ابغيتْ هيبْتَك وارْضاكْ امْعايا يكُونْ خَلْفي وأمامي / إيمِينِي وشمالي انْعيشْ به امنعَّمْ مستُور”.
وفي “التطوانية”، قال إدريس بن علي: “يا عيني بدّل لي امْنامَك بالسّهران / وابكِي عن غُربَة الاسلامْ بدَمع اهْتِينْ // ما يستاهَل غَرْبنا هذا الختلانْ / مع كتر الجْنُودْ والمالْ والبنِين / خالْفنا قَوْلْ به أمرنا الدِّيّانْ / واغْبَطْنا في الهْتوفْ عن أمرْ المُبينْ // الله إيجُودْ بالنْصَر لْعلامْ الدِّينْ / في احْدِيثْ بن عمّارْ / إلا اتْلهاتْ النّاس بالتّجارة / والْغاوْا الجهادْ اغشاهُمْ دلّاََ اكْتيرْ ويعَمّ ادْيارُه / هذا القُولْ في الاسْفارْ / مَرْوي في الحُلَّة حقّ بالامارَة / نَقْله الشِّيخْ أبو نعيم امْوَضّحْ الحْديثْ في اسْفارُه / أيا أولي الابْصار / اعْتبْروا ونَظْروا في ذا العْبارَة / وتأمْلُوا في هذا القَوْلْ اللّي بانْ يا سيادِي عَتْبارُه”.
ويتابع: “أتَّلْهينا بالدِّينار / وغبَطْنا في الدّنيا بخُودْ وارى / واقْوى الحَسدْ والبُغْضْ في هذا الجيلْ في اكبارُه واصغارُه / لا ناهِي عن مُنْكارْ / لا تَوقِيرْ الشّيّاب بالتّمارَة / لا صَدق لا اوْفى لا عاهَدْ ولا اصْغيرْ إيعِين اكْبارُه / ربِّي يَشْفِي الاضرارْ / ويفَرَّجْ همّ العرْبْ بالإشارَة / سلطانّا يشَعشَعْ نُورُه في يمِين اعْضاهْ يظَهْرْ عتْبارُه”.
وفي إحدى تصلياته، قال السناني: “يا رَبّي بالنبي اسألْتَك وبجاهْ الآلْ والاصحابْ / عن قَلْبِي تَرْفَعْ الحجابْ وكتُبْني في ازْمامْ من خَصَّصْتيهُم بالمراقْبَة / واجعَلْني يا كرِيمْ مستعْصَم بالسُّنّة والكْتاب / وارْحَمْني يُومْ الحسابْ / واقبل عُدْري وكن لي بأحْسانَك عند المحاسْبَة”.
المصدر: وكالات