أنجز الشاعران المغربيان عبد اللطيف اللعبي وياسين عدنان أنطولوجيا للشعر الفلسطيني الراهن نُشرت أولا بباريس باللغة الفرنسية، ثم بالعربية عن دار المتوسط؛ وتقدم أصواتا شعرية جديدة بعضها من غزة المحاصرة هذه الأيام، كما تعيد الاعتبار للهشاشة الإنسانية للفلسطيني إنسانا ومبدعا.
وهنا تقديم الشاعر ياسين عدنان لهذه الأنطولوجيا التي صدرت طبعًا قبل القصف المتواصل هذه الأيام على غزة:
كيف نذهب باتجاه شتات الشعر الفلسطيني الرّاهن الذي يُعرّش اليوم مثل لبلابٍ في أرواح الأجيال الجديدة، ولا نتهيَّب؟ ففلسطين ليست حدودًا معلومةً يمكن الاطمئنان إليها بعدما توزَّعَتْها مِزَق الوطن وبلدانُ اللجوء، أمّا أصواتُها الشعرية الجديدة فصارت تُبرعِم في كلّ القارّات. فلسطين اليوم تبدو أوسع من خريطتها، بعدما هرّبَها أبناؤها إلى “أوطانهم” الجديدة وغرسَ كلٌّ فلسْطِينَهُ هناك حيث يقيم. لكنَّ فلسطين ليست جغرافيا فحسب، وإنّما هي فكرةٌ أيضًا. فما بالُ الفكرة التَّليدة التي تغنّى بها شعراء المقاومة تتفتَّتُ نكسةً إثر نكبة؟ ومع ذلك فالقصيدةُ ما يعنينا، وعلينا أن نتلمَّس تحوُّلاتها في دفاتر الشعراء وعلى جدرانهم الإلكترونية.
تهيّبتُ أيضًا لأنّ من دعاني إلى مرافقته في هذا الاختراق المدهش لأحراش الشعر الفلسطيني الراهن ليس سوى الشاعر عبد اللطيف اللعبي، الذي خَبِرَ هذا الشعر جيّدًا؛ فهو أوّل من قدَّمه إلى القارئ الفرنسي في أنطولوجيا “شعر المقاومة الفلسطيني” سنة 1970، قبل أن يُصدِر بعد عقدين، بباريس دائمًا، “أنطولوجيا الشعر الفلسطيني المعاصر”. لذا، ما إن اقترح عليّ اللعبي مُشاركَتَه إنجاز أنطولوجيا خاصة بالشعر الفلسطيني الراهن ليُترجِمها إلى الفرنسية حتى عدتُ إلى رفوف مكتبتي لأستلَّ لائحةً من مجايِليَّ الفلسطينيّين، وهم شعراء لامعون وأصدقاء أعزّاء. لكنّ “مجنون الأمل” يصبو إلى فتح “الراهن الشعري الفلسطيني” على المستقبل ما أمكن. هكذا جرَّبتُ الانفتاح على جيلٍ أحدث. والحصيلةُ هذه الباقة التي تُشكِّلُ أصواتُها ما يمكن المجازفةُ بتسْمِيته “جيل الألفية الجديدة”.
تضمُّ اللائحةُ شعراء لهم صيتٌ عربي وحضورٌ دولي؛ لكنّ بينهم أصواتًا مازالت قيد التَّخلُّق، وأخرى لا يتجاوز حضورُها الشعري صفحات “فيسبوك”. لكن العِبْرة بطراوةِ التجربة وقدرتِها على فتح الشعرية الفلسطينية على أفق جديد، قد يبدو للبعض مُلتبسًا مُشوَّشًا، لكنَّ الخطوَ باتجاههِ حرٌّ جريء.
عاش الشعر الفلسطيني زمنًا اتّضحت فيه الفكرةُ ونضجت الرؤيةُ وصَفَتِ العبارة، واختار الفلسطينيون – شعبًا وقيادةً – أن يستأمِنوا شعراءهم على كلّ ذلك. وفعلًا، هجسَ هؤلاء بما في ضمير شعبهم فتعلّق بهم، ومعه جمهور الشعر العربي، وتوَّجُوهم شعراءَ قضيةٍ وأمراءَ كلام. ثم هلَّ جيلٌ لاحقٌ بأصوات غدَتْ نبرتُها أكثر خفوتًا، فعكفوا على بلورة تجاربهم الخاصة بإصرارٍ هادئٍ على تحرير فلسطين من البلاغة أولًا، ما دام تحريرُها من الاحتلال أمرًا صعب المنال.
شعراء هذه الأنطولوجيا يكتبون بلا أوهام؛ هكذا ببساطة، ودون أن يدَّعوا الانخراط في مشاريع كبرى، حتى صورة الشاعر لا تُغريهم، كما أنّ لقب “الشاعر” لن يُفعِمَهم بالزهو في فضاءات عيشهم الواقعية منها والافتراضية على حدٍّ سواء. أمّا البلد، فالقصيدة أبسط من أن تدُلَّ عليه. ثم أين البلد، بعدما تكالبَتْ عليه المؤامرات وصفقاتُ القرون؟ يجيب أنس العيلة:
“البلدُ الذي تضاءلَ مثل غيمةِ صيفٍ
سيتناثرُ عمّا قريب
مُخلّفًا بُقعًا صغيرة على الخارطة!”.
أمّا الهوية فلم تعد تخنْدُقًا واعيًا محسومًا كما كان عليه الأمر في منتصف الستينيّات، حين أعلن “عاشقٌ من فلسطين”:
“سجّل
أنا عربي
أنا اسمٌ بلا لقبِ”
بل أضحَتْ ورطةً وجوديةً يُكابدها شعراء الراهن، لذا تجدهم يكتبون بحذرٍ من أيّ هويات ناجزة ترهَنُهُم، ويرتابون في كلّ عناصرها بدْءًا بالاسم الشخصي كما هو الشأن عند كوليت أبو حسين:
“أطلقوا عليَّ اسمي مثلَ رصاصةٍ
انتزَعْتُه من أفواههم
وسمّيْتُني”.
فيما اختزلت جمانة مصطفى القضية في اسم صغير نابض يجرُّ مقبرة عائلية:
“مات جدّي حيث وُلِد
ومات أبي حيث وُلِدنا
صار اسمي الثلاثي حيًّا يجرُّ أمواتًا”.
أمّا أشرف فياض الذي يكابد السجن في بلد عربي شقيق فهو أبعد الناس عن إشهار “عروبته” أو المفاخرة بها، في حين لم تُسعفه “فلسطينيّتُه” في محنته، لذا أخضعها للنَّظر القَلِقِ والفحص الدّقيق. “أن تكون فلسطينيًّا” يعني:
“أن تعتاد الموت
أن تبتلع الألم بسهولة
أن تخسر كل شيء
أن تمتنع عن البكاء
تتقيّأ تاريخًا مبعثرًا
وتجترّ ذاكرةً عبثيةً
وينتهي بك المطافُ مستحيلًا
كالعدم”.
لا شكّ أنّ وطأة الشتات كانت شديدة على حياة الفلسطينيّين وعلى تجارب شعرائهم، حتى لَيَشعُرُ القارئُ أحيانًا بأنّ المُشترَك بينهم لم يعد واضح المعالم، إذ وُحدانًا يذهبون إلى الشعر، لا زُمَرًا وزرافات؛ كأنّما ينشُدون خلاصًا فرديًّا سرعان ما يتحوّل إلى عقوبة مؤكّدة ومؤبّدة. يكتب نجوان درويش:
“أحمل خلاصي على ظَهري
وأطوفُ بِهِ
مثل عِقاب”.
في السابق، كان الشاعر الفلسطيني يُفصح عن نفسه بدْءًا بالمعجم. كان هناك الكثير من الزعتر والزيتون والسنديان في القصيدة الفلسطينية. عوسجٌ وقرنفلٌ وياسمين، حمامٌ وعصافير، وثمّة قمرٌ لا يكاد يغيب عن قصائد الشعراء. اليوم، كلٌّ يكتب قصيدته هو. بلُغَتِه الخاصة، العادية، والمتوتّرة، لكنها سبيلُه إلى الشعر. هذا الصديقُ الرَّفيق، يُناجونه بلا كلفة، ويعاتبونه بلا تردّد، لكنَّ علاقتهم بِهِ تبقى شأنًا شخصيًّا. تقول هلا الشروف:
“امشِ معي أيّها الشعر
لسنا توأمَيْن
ولكنّنا سنجدُ ما نتحدّثُ عنه
أنتَ حدبتي وأنا سِراجُك
لذا، سنحتاجُ هذه الرُّفقة
ولن نندم”.
هي علاقاتٌ ذاتيةٌ مع الشعر والبلد والفكرة والروح والجسد؛ كلٌّ يبوحُ على سَجيتِه، بتلعثم أو بصخب، وكلٌّ يكتب جسدَه، بشراسةٍ أو بخَفَر، وكلٌّ يستحضر القضية بطريقته، بسخرية أو بغضب. لكن المؤكّد أنّ ذهاب هذه الأصوات جميعها إلى الشعر يصدر عن إيمان صادق به وبالحاجة إليه.. وعن طاقة متوتّرة ومؤثّرة. إنها قصائد ينشرها أصحابها طازجةً على “فيسبوك” أحيانًا. قصائدُ زمنٍ إلكتروني لا يشبه الزمن القديم… فلسطين فيها متعدّدة، حدودُها متلاطمة مثل موج لا يحدُّه ساحل، والشهيد فيها لم يعد الرمز المُحنَّط في أكفان ورقية، ولا عادَتْ ذكراهُ دافئةً في القلوب كما في الأغاني القديمة. نقرأ في قصيدة “شهيد” لأشرف الزغل:
“أنت وحيدٌ جدًّا يا صديقي
الذي في الصورة
هناك مَن يقفُ أمامك وخلفك
لكنك وحيدٌ
وحيدٌ جدًّا
………..
وهذه ليست أغنية”.
ليست أغاني إذَن، لذا لا نحتاج معها إلى أوتار وعازفين. هذه حالات وجعٍ مزمنٍ لا تنفع معها أقراص الأسبرين؛ حالات قلقٍ مُحايِد. تقول كوليت أبو حسين:
“لم يحفظ أيٌّ من الجيران اسمَها.. ولم يرَها أحد..
حين وجدوها ميّتةً على أريكتها الجلد لم يتعرَّف عليها أحد كذلك.
كانت يابسةً مثل غصنٍ وقعَ عن شجرة”.
لكن، هل يمكننا أن نتحدّث عن الموت المُلتصق بنا هكذا بحيادٍ، وكأنّنا نلتقط له صورةً بكاميرا الهاتف؟ ممكن جدًّا، تجيب كوليت، التي مبكِّرًا “صعدَتْ بخِفّة نحو الموت”. “كلّنا أبناءُ الموت” أعلنت، ثم إنّ “قلبي مقبرة جماعية” أضافت ثم انطفأت روحُها قبل أن تُصدِر ديوانها الشعري الأول، وهي التي ظلت تحلم بتأسيس دار نشر تفكُّ العزلة عن أصوات شابة جديرة بالضوء.
كانت كوليت تُشبه قصيدتها. وأزعم أنّ عددا من شعراء هذه الأنطولوجيا قصائدهم تُشبِهُهم. غياث المدهون مثلًا استقر بستوكهولم عام 2008 لاجئا إليها من سوريا ودخلها بجواز سفر فلسطيني، وهو الذي لم تطأ قدمُه لا فلسطين ولا غيرها طوال حياته بالشام. ثم عاد في 2016 إلى فلسطين التي ما كان ليُسمَح له بدخولها لولا جوازُ سفره السويدي. هكذا حلّ الرجل بالسويد فلسطينيًّا، ودخل فلسطين أوّل مرّة دخول السويديّين؛ واليوم تجد من يُقدّمه في المهرجانات كشاعر اسكندنافي يقيم في برلين، لكنه مع ذلك ظلّ يحلم بحياة أخرى، في عالم افتراضي أكثر سلاسة:
“لو كنّا في عالم افتراضي
لأطفأتُ الحرب كما تطفئين التلفزيون
ولكنّنا وُلدنا في عالم ابن عاهرة
وحين يولد الناس في عالمٍ ابن عاهرة
يتحوّل الزمن إلى آلةٍ كاتبةٍ
والقتلى إلى قصائد”.
وإذا كانت قصائد هؤلاء الشعراء تُشبِهُهم فإنها قد تخذلهم أحيانًا؛ ولأنّهم بلا أوهامٍ، تآلفوا مع الخذلان… وعمومًا، هم يكتبون قصائد لا يعرفون ما سيفعلونه بها في ما بعد. صحيح أن “الهدف الحقّ هو الدّرب لا ما يُفضي إليه” كما قال روني شار مرّة، لكن لمايا أبو الحيات رأيًا آخر:
“ماذا نفعل بالطُّرقات
بعد اختفاء الوِجهة؟”.
ربما علينا أن نطويها على عجل قبل أن نوغل في الغياب. يقول رائد وحش:
“نحن الغائبين بعد قليل
تعلّمْنا من السابقين
ألّا نترك أثرًا
وسنُعلّم اللاحقين
ألّا يأتوا”.
الأثر غيرُ مطلوبٍ إذن، والقصيدة لا تتوخّى خلودًا. فالظاهر أنّ الشاعر الفلسطيني اليوم معنيٌّ بِحَيرته الوجودية أكثر مما يعنيه الأثر والتأثير؛ إنه عاجز مثلًا عن إرضاء الجمهور الذي ورثه عن محمود درويش. ثم إنّ درويش صار ذكرى بعيدة. فالأهم اليوم ألا يخذل الشاعر قلقه، بل إنّه لا يجد أدنى حرج في الاعتراف بعجزه ليس أمام انتظارات الجمهور فحسب، بل أمام القصيدة ذاتها. نقرأ لخالد سليمان الناصري:
“منذ أشهرٍ، لم أكتبْ شيئًا! أشعرُ بالعجزِ، وأشعرُ أني أُفْرِغْتُ تمامًا؟ مجرَّد غُصَّات بين فترةٍ وأخرى، بالكاد التقاطةٌ هنا أو هناك، وغالبًا مصدرُها الحَذَاقَةُ أكثرُ من الشِّعْر”.
في هذه الأنطولوجيا تشبهُ القصائدُ مبدعيها، وحسْبُها ذلك، تدوِّن ارتباكهم وعجزهم بلا مواربة، وأيضا نظرتهم الناقدة لما يكتبون. حتى حين تكتب الشاعرات أنوثتهنّ يفعلن بلا تكلّف. الأنوثة ليست كحلًا بل لمعةً في العينين. والأنثى حاضرة في قصائد الشاعرات دون شعارات نسويّةٍ ولا تمرُّد صارخ. كذلك الحُبّ تكتب الشاعرات عنه بتلقائية دون أن يتمَلَّقْن الرومانسية؛ ورغم أنّ جرأتهنّ لا حدود لها لا يفتعلن الاستفزاز. تكتب رجاء غانم:
“تمرّ يداك على نهدَيَّ
يتأوّهُ العالم
ويسيلُ حليب الأمهات”.
فقط بعدما اكتملت الترجمة وتوصَّل بها الناشر الفرنسي فكّرنا، عبد اللطيف اللعبي وأنا، في أنّ هذه الحديقة الشعرية تستحقّ أن تُفْتَح في وجه القرّاء العرب أيضًا. لكلِّ شاعرٍ مساحتُه الخضراء. وكلُّ ما يحاوله هؤلاء الشعراء هو إقناع القصيدة وقارئِها بأنهم يستطيعون هم أيضًا لا أن يُجدّدوا في الشعر ويَفتحوه على مجهولٍ ما، بل أن ينتسبوا إليه بأصالة… لقد أضحت مطالبُهم بسيطة، ومشاريعُهم أيضًا. هل عن تخاذُلٍ وانهزام؟ هل لأنَّ زمن الفرسان في الشعر والقصيدة قد وَلَّى؟ لكن، أين الفرسان في معترك السياسة لنبحث عنهم في شِعاب القصيدة؟ ظَنِّي أنَّ شعراء فلسطين اليوم جاؤوا في زمنٍ عزَّتْ فيه الفروسية؛ ولأنّهم يرفضون القبول بالهزيمة، حاولوا الالتفاف عليها في ما يكتبون. القصيدةُ بهذا المعنى فضاءُ مُمانَعَة، وبهذا المعنى يمكن اعتبار المُمانَعَة أكبر مشروع وجودي لهؤلاء الشعراء؛ فكلُّ ما يحلمون به هو الانتصارُ للعُمق الهشّ للشاعر والكائن والكلمة، في زمن الهويات القاتلة واليقينيّات المُستفحِلة.
لنتخفّف من يقينيّاتنا إذن، ولنذهب خِفافًا إلى القصيدة. لِنُجرِّب مثلا أن نحدِّق في “الغراب الأسود في الثلج”، فهو حسب قصيدةٍ لمروان مخول “أجمل من كلّ حمام السلام الذي في خطاب السياسيّين”.
المصدر: وكالات