شرعت أسماء بوطالب في دراسة الطب بمدينة الرباط قبل أن تكمل التكوين نفسه، بشقيه النظري والعملي، في مدينة مونتريال بكبيك، لتصير مؤهلة للاشتغال في هذا المجال بناء على المهارات التي اكتسبتها خلال مسار تأطير يمتد من الساحل الشرقي للمحيط الأطلسي حتى ملامسة نظيره الغربي.
تدرجت المغربية نفسها، منذ ما يزيد على 40 سنة في كندا، بين الإشراف على الاستشفاء والانخراط في البحث العلمي، وجربت مواقع مهنية عديدة قبل الحسم في ممارسة طب الأسرة. كما لم تغفل بوطالب عن إيجاد مساحة للأداء التطوعي كي تنقل خبرتها الطبية في الاتجاه المعاكس؛ من الساحل الأطلسي الكندي إلى ما وراء نظيره المغربي.
فاسية في الرباط
ازدادت أسماء بوطالب في أحضان أسرة مستقرة في مدينة فاس. وعند وصول عمرها إلى الربيع الثاني، انتقلت والمحيطون بها للاستقرار في مدينة الرباط، إذ شبت وترعرعت وسط العاصمة؛ بينما حاول والداها تمكينها من تكوين متميز عند وصولها إلى سن التمدرس، وقد صاحبها التوفيق في التدرج بين أقسام مؤسسات البعثة الفرنسية.
تقول أسماء: ‘’لا أحتفظ بذكريات عن مدينة فاس لأنني كنت صغيرة جدا حين غادرت أسرتي هذه الحاضرة؛ لكن التفاصيل الصغيرة للعيش في الرباط لا تزال حية في مخيلتي رغم مرور عشرات السنين، خاصة ما يرتبط بالدراسة التي انطلقت من مدرسة لامارتين وانتهت بالحصول على شهادة الباكالوريا في ثانوية ديكارت”.
في توجه مغاير لغالبية أفراد دفعتها المتخرجين من الثانوية الفرنسية بالرباط، لم تنتقل بوطالب إلى فرنسا لاستكمال التكوين على مستوى التعليم العالي، إذ فضلت البقاء في العاصمة المغربية بعدما أفلحت في الولوج إلى كلية الطب والصيدلة خلال عقد السبعينيات من القرن الماضي.
فترة تكوين إضافية
تزوجت أسماء بوطالب قبل التخرج طبيبة، وقررت الانتقال إلى كندا بحلول سنة 1980؛ لكن هذا التحول لم يثنها عن تحقيق حلمها، ولم تدخر جهدا في الدفاع عن حظوظها كاملة للوصول إلى أداء ‘’قسَم أبوقراط’‘، وبهذا الإصرار أفلحت في اقتناص فرصة لاستكمال تكوينها الطبي في جامعة مونتريال.
وعن هذه الطفرة، تورد أسماء: ‘’لقد كان التحول إلى كبيك جيدا على العموم؛ لكنني لم أتقبل التفريط في مساري الأكاديمي، الذي لازمته 5 سنوات في الرباط. وهنا وجدت بعض الصعاب حتى نلت الاعتراف بتكويني المغربي وقتها؛ لأنني رغبت في العمل وفق ما يساير رغباتي وطموحاتي، ولم أجذب إلى أي ميدان أبدا غير الطب”.
“استغرقت بعض الوقت في الإلحاح حتى تحقق المراد؛ لكن النتيجة النهائية لم تأت مطابقة لما أردت في البداية، والحل الوحيد اقتضى قبول عرض يضعني في السنة الثالثة من مسار التكوين حتى أصير طبيبة في كندا’’، تورد بوطالب قبل أن تواصل باسمة: ‘’بكيفية أو بأخرى، يمكن القول إنني درست الطب أكثر من اللازم”.
التوجه إلى طب الأسرة
انطلقت المسيرة المهنية لأسماء بوطالب من بناية مستشفى صغير، مشاركة في التدخلات الطبية التي يحتاجها فضاء المستعجلات، مستثمرة هذه البداية في صقل قدراتها الميدانية بكيفية جيدة واكتساب مهارات نفسانية من أجل التعامل مع الضغوطات القوية الناجمة عن الاشتغال وفق دينامية عالية.
وتستحضر الطبيبة عينها سمات تلك الفترة حين تقول: ‘’الطب في كندا يبقى حكرا على ذوي الجنسية الكندية حتى الآن، ولا يتم التساهل مع الأجانب في هذه المهنة. لذلك، وعيت بأنني في مكانة تستحق التركيز جيدا، ومع المراس في المستعجلات شاركت في أبحاث عديدة، خاصة سرطان الثدي وتوسع الأوردة”.
بعد اجتياز مرحلة مهنية اقتضت التركيز على الأنشطة البشرية المرتبطة بالتغذية وتخفيض الوزن، استمرت أسماء بوطالب في التكوين المستمر حتى حولت الوجهة نحو التعامل مع الاحتياجات الأنثوية، من خلال أمراض النساء والتوليد، ثم وصلت في النهاية إلى الالتزام بممارسة المهام الموكولة إلى المتخصصين في طب الأسرة.
تنقلات بين الأجيال
تعلن المغربية المستقرة في كندا منذ ما يزيد عن أربعين سنة أن أداءها المهني، منذ انطلاقه في ثمانينيات القرن العشرين، بقي مرادفا للشغف عندها. وتشدد على أن محبتها لما تقوم به قد زادت بعد ممارسة طب الأسرة؛ لأنه يتيح التعامل مع جميع الفئات العمرية، إذ أتاحت لها تجربتها خلال العقود الماضية مواكبة أجيال متعاقبة.
وتفصل أسماء بقولها: ‘’بفضل الممارسة في طب الأسرة واكبت عائلات على امتداد عشرات السنين، وفي حالات كثيرة تعاملت مع نساء وأبنائهن حتى وصلت حاليا إلى التعاطي مع الأوضاع الصحية لأحفادهن. وهذه الوضعية تسمح بنجاعة عالية في الأداء؛ لأنني أعرف، على الخصوص، السوابق المرضية في كل عائلة على حدة”.
ترى بوطالب أن التعاطي مع طب الأسرة يبقى مجزيا لها من الناحية النفسانية، بل ترتقي به إلى مرتبة مصدر بارز لشعورها بالسعادة؛ بينما ترى الطبيبة نفسها أن هذا الاشتغال يساهم في إبقائها مطلعة على المستجدات عند التعامل مع المتاعب الصحية الحديثة، وذلك من التواصل مع الاختصاصيين بنية التشاور حول الحالات التي تحتاج إلى الرعاية أكثر من غيرها.
التطوع في المغرب
أسست أسماء بوطالب تنظيما تطوعيا غير ربحي، اختارت له أن يلوح للعلن حاملا اسم ‘’أومسيف’’ (OMCSEF)، وهو اختصار دال على المنظمة المغربية الكندية لصحة الطفل والمرأة بتسميتها الفرنسية، وتحت هذه المظلة الجمعوية عملت على الانخراط في مبادرات طبية تعتني بأناس من الفئة الهشة في المغرب.
وتقول المنتمية إلى صف الجالية المغربية في كبيك: ‘’كنت قد صرت أرملة حين برزت الفكرة، ورأيت أنها تساعدني في التركيز ضمن عملي الأساسي دون أن تحرمني من إيجاد تحديات إضافية أتخطى بها الأزمة الوجدانية التي مررت بها، وقد شاركتني إحدى صديقاتي في التخطيط، كما تنقلنا معا من أجل التنفيذ في المغرب”.
بناء على شراكات مع جمعيتين في المغرب وفرنسا، وبوتيرة تصل إلى مرتين في السنة الواحدة، حرصت المنظمة المغربية الكندية لصحة الطفل والمرأة على التوجه بقافلة طبية نحو جماعات قروية ضواحي ميدلت ومرزوگة لرعاية المحتاجين على مدى أسبوع، مع التركيز على إجراء فحوصات تهم سرطان الثدي وأورام الرحم، وتراهن المنظمة على استئناف هذا النشاط بعد توقفه عقب تفشي جائحة ‘’كورونا’‘.
تكوينات ومقاسات
تنصح أسماء بوطالب الراغبين في الهجرة إلى كبيك وعموم كندا بالإقبال على الدراسة، سواء كان ذلك من لدن الفئة الشابة الراغبة في شق مساراتها بالاعتماد على التعليم العالي في هذه البلاد أو أولئك الأكبر سنا ممن يستطيعون الحصول على تكوينات تعزز مهاراتهم وقدراتهم كي يتعاملوا مع التحديات الجديدة بمعارف أمتن.
وتذكر الوافدة على مونتريال مطلع عقد ثمانينيات القرن المنصرم: ‘’بناء على تجربتي الشخصية، يمكنني التنبيه إلى أن من يهاجرون بمهن جاهزة ومهارات مكتسبة في الوطن الأم يجدون حزمة من المشاكل في انتظارهم، ويضطرون إلى الانتظار وقتا طويلا من أجل نيل فرصة في الميدان الذي يخبرونه’’.
‘’أرى أن إعادة التكوين على الطريقة الكندية، وفق المعاير المعمول بها في بلد الاستقبال، تبقى أنسب كيفية للوصول إلى الاندماج عن وعي في المجتمع. كما أن هذا الانفتاح على التعلم مجددا يتيح للمهاجرين كسب السباق مع الوقت؛ فهو يجعل المرء يصير على مقاس الفرص المتاحة أمامه بوفرة، لا أن يثبت في مكانه حتى تأتي فرصة على المقاس الذي هاجر به’’، تختم أسماء بوطالب.
المصدر: وكالات