بدأت ساكنة إمين تالا تستعد لحياة جديدة قرب مشاهد “الدمار الشامل” التي لحقت بمنازلها، فوسط الخيام تبدو الوجوه صامدة، أما القلوب فبداخلها أوجاع “نفسية عميقة”.
لم تعد الساكنة كما العادة متحمسة ونشيطة، ولم تعد حقول التفاح الكثيرة قرب الوادي تغريها، وتحول هم البحث عن الماء للسقي إلى هم الحياة داخل الخيام، أما فرحة تجمع العائلة حول الطعام فأصبحت ذكرى بعيدة المنال.
الذكريات المؤلمة
يعيش الناجون هنا على وقع ذكريات سيئة تحرمهم النوم، الذي صار أسوأ محطات اليوم بالنسبة لهم، ففيه يعود شريط ليلة الزلزال المؤلمة، وهو حال حسن (خمسيني)، الذي فقد أمه وزوجته والعديد من أقاربه.
يقول حسن: “لا أنام، أعصابي مدمرة، وصوت أمي لا يزال في ذهني، أما زوجتي الراحلة فصورتها ترهقني كليا. لقد فقدت حياتي كلها، وما أعيشه الآن مجرد واقع يومي مرهق للغاية”.
“في كل صباح أتوجه إلى منزلنا المدمر بالكامل، ومن خلاله أستعيد ذكرياتنا، وكيف كانت أمي تجلس لإعداد الشاي فور عودتي من الحقل، وكيف كانت زوجتي تساندني في الأوقات الصعبة، وبعد ذلك أنهار نفسيا بشكل تام وأتساءل: هل بقائي في الحياة رغم فقدانهم أمر صائب؟” يضيف المتحدث.
فقد حسن الأمل مجددا في عودة دوار إمين تالا، فصخور الجبال والزلزال قررا طمس كل شيء، ولا تزال رغم كل ما فعلته “شامخة” فوق الخيام، مهددة بـ”إعادة الفاجعة”، وهو ما يصفه المتحدث قائلا: “في كل مرة نلاحظ كمية هاته الصخور فوقنا نحس كأنها تريد تكرار ليلة الجمعة، وهو ما يزيد من نسبة القلق والخوف النفسي بداخلنا”.
توتر داخل الخيام
غير أن حالة الضغط النفسي لا تمنع حسن من مواساة ابنه الذي بقي على قيد الحياة. يقول: “رغم كل هذا الجو الكئيب، فأنا أحرص على مواساة ابني المكلوم، فهو عانى الويلات منذ تلك الليلة، مما يدفعني إلى خلق جو إيجابي له، رغم علمي القوي بعدم نجاحي في الأمر، لكنني أحاول”.
داخل الخيام لا تستطيع ملامح الساكنة إخفاء “الضرر النفسي”، و”خوفها من كل ما هو قادم”، وهو حال إبراهيم (ستيني)، الذي فقد معظم أفراد عائلته وبقي والده لوحده ضمن الناجين. يقول: “منذ ليلة الجمعة أحس بالخوف، وهذا الأمر لا يجعلني أنام على الإطلاق”.
ويضيف إبراهيم لهسبريس “الصخور التي تنهار في كل مرة تفزعني، وتزيد من احتمالات التفكير لدي، والتي أصبحت بالملايين منذ تلك الليلة السوداء، كما أن إصابتي في الرأس تجعلني في هم كبير لم أكن أعيشه على الإطلاق”.
“في الخيمة ألاحظ تصاعد التوتر النفسي بيني وبين والدي، وهو حال العائلات الأخرى، وهذا الأمر لم نعهده على الإطلاق قبل الزلزال، فقد كانت الابتسامة دائما حاضرة بيننا، وأجواء النشاط والمرح دائما موجودة في الحقول”، يتابع المتحدث.
تغيرت طبيعة الساكنة النشيطة بالكامل، فالبطالة أمر غير معروف هنا، ومع غياب الاهتمام بالحقول صار رجال إمين تالا قلقين من كل شيء، أما ترقب المساعدات وطرق توزيعها فيزيد من “تعميق الضرر النفسي الحاصل”.
يقول إبراهيم: “كنا نحن من يؤوي القادم، ونحن من يساعد الناس بكل ما نملك، لا يمكن للزائر هنا أن يأتي دون أن يبيت عندنا أياما عديدة بدون مقابل، لكن الوضع الحالي عكس كل شيء، وهو ما يجعلني كرجل أحس بالضرر الكبير”.
الهرب من الواقع
لا يقف هم الساكنة عند من رحلوا فقط، بل يتجاوزه إلى من بقوا على قيد الحياة، خاصة الأطفال، فغياب الدراسة والخوف من الوضع الجديد يؤرق الأولياء بشكل كبير، ويجعل الهم كبيرا، الأمر الذي يصفه محمد (ثلاثيني) بـ”الكارثي”، قائلا: “كانت والدتي وزوجتي تتكفلان بالأطفال طيلة اليوم، وأنا كنت أعمل بالحقل، وحاليا أعلم أن هاته المهمة تجعلهما تواجهان وضعا نفسيا كارثيا”.
لمواجهة الأمر قرر محمد إبقاء الأطفال بجانب زوجته وبنات عمه، والتوجه إلى التطوع في عمليات الإسعاف هربا من ذكريات رحيل أمه وأحد أبنائه، وأيضا من أجل مساعدة أبناء الدوار الهالكين. يقول: “رغم كل هاته الصدمات النفسية قررت العمل ولو بدون مقابل حتى أهرب من واقعي المؤلم، فهذا وحده قادر على إيقاف دموعي”.
“عندما ينتهي دوامي في عملية التطوع أذهب إلى الحقل وأجلس لوحدي مهموما، وهذا حال كل الرجال هنا، فالجميع يتحرك منشغلا بدون شيء في الصباح، لكن غروب الشمس يعيدنا كلنا إلى حيث كنا، ويتصاعد مرضنا النفسي الجديد”، يضيف المتحدث.
نساء الدوار أيضا يحملن نصيبا كبيرا من الضرر النفسي، فرغم استمرار نشاطهن في الطبخ وجلب المواد الغذائية إلى الخيام، فإن ذكريات الليلة السوداء لا تزال حاضرة. تقول إحداهن: “لسنا بخير على الإطلاق، نحن نعيش بدون هدف، نعد الطعام ونأكله ثم ننام بلا أي طعم”.
“حتى الليل يفجعنا، فصوت الزلزال لا يزال في أذني إلى حدود الساعة، أما رائحة جثث عائلتي فلا تزال عالقة في أنفي، وهذا الأمر يجعل حتى الدموع غير كافية لمواجهته، مما يجعل صدورنا مرهقة وعقولنا لم تعد تحتمل يوما جديدا في إمين تالا”، تضيف المتحدثة.
“إذا ذهبت إمين تالا سنبني واحدة جديدة”
تبدو خيام هذا الدوار كنسيج سكاني كئيب يرسم السواد ملامحه، باستثناء بعض مصابيح الأمل المتفرقة، التي لا تزال تؤمن بحياة جديدة لإمين تالا.
ويصر الحسين (90 سنة) على أن “الدوار سينجو مجددا، كما نجونا نحن من محاولات الاستعمار هدم قريتنا”.
ويضيف “نحمد الله رغم كل شيء. الألم موجود، لكن الأمل يرافقه في كل خطوة، وما يشجعنا أكثر هو ماضينا القاسي”.
كان أجداد إمين تالا يواجهون حياة قاسية بفعل غياب التواصل مع الأماكن الأخرى باستثناء دواوير مجاورة، كما أن مواجهة المصائب المناخية يكون يوميا، أما حالات الإصابات التي تمسهم فتتم معالجتها بالصبر.
“نحن نصبر كما صبرنا طيلة عقود خلت، لا يمكن لهذا الزلزال إلا أن يكون ذكرى عابرة. صحيح أن دوارنا طمس بالكامل، ولم يعد فيه سوى الاسم، لكن هذا يكفي لنعود مجددا ونرممه”.
حماس الرجل التسعيني يقابله حماس آخر لكن بنسب تبدو معقولة. يقول عبد الهادي (أربعيني): “ما حدث قد حدث، ونحمد الله على كل شيء، لكن ما يجب أن يعلمه جل السكان هنا هو أن دوارنا رحل عن الوجود بشكل تام”.
“هذا الدوار أصبح غير صالح للعيش، فحتى لو أعدنا ترميمه، فحدوث زلزال جديد سيدمرنا من جديد، وهذا أمر يجعلني أتيقن بأننا سنذهب إلى حيز جغرافي بعيد عن هذا الجبل القاسي”، يضيف المتحدث.
ويتابع قائلا: “نحن نؤمن بوجود حياة جديدة لنا، ويجب أن نحمد الله على أننا أحياء، وهذا الكلام أحرص على نقله إلى أسرتي، خاصة زوجتي التي انهارت أعصابها منذ ليلة الجمعة، لكن اليوم بعد أسبوع أجد أنها بدأت تعي كلامي جيدا”.
يحرص عبد الهادي على خلق “أجواء ترفيهية” داخل خيمة أسرته، فهي حله المتبقي لإبقاء أفراد عائلته في وضع نفسي مستقر، وهو ما يفسره بالقول: “أداعبهم جميعا، ونخلق أجواء فكاهية رغم علمنا بعدم وجود توافق زمني لذلك، لكننا نواصل الأمر لأنه لا فائدة من الندم والحزن المتواصل، وإذا ذهبت إمين تلا يمكن أن نبني واحدة أخرى في مكان آمن”.
المصدر: وكالات