يكتب علي الوكيلي التاريخ أدبا في أحدث قصصه السيرية “نَسَمَة مغربية”، تاريخ مغرب الستينات والسبعينات وما بعدهما، تاريخ مكناسيّ، تاريخ تحوّل في الذهنيات، تاريخ كَبَد عاشته أسرة، مهنة، أمة، وعاشه هو.
صدق، وطرافة، وألم، يجدها القارئ في صفحات هذه السيرة، ويجد صفاء أيضا، ذاك الصفاء الذي يتحقق مع المسافة، مع مرور الزمن الذي يجعل الإنسان ينظر إلى المعيش، وما كانه أبواه، وأترابه، وعائلته، ومحيطه، وما كانه دون حسابات، قبل أن تأتي شجاعة القول لتأريخ ما رسخ من قناعات.
هذه “النتفة من تاريخ المغرب” كما يسميها صاحبها الذي يؤكد أن التاريخ “لا يكتبه المؤرخون فحسب وإنما يكتبه الأدباء والفلاسفة والعلماء من كل صنف”، تنطلق أحداثها قبل ولادة صاحبها، مذ قتل أبوه وهو ما يزال جنينا يسكن أمه.
ويحكي الوكيلي قصّة “الشرف” الذي طالما سطا على مخيال المغاربة، ومنهم أبوه الذي كان يتشبّث بخيط هذا “التميّز”، محتقرا من “دونه”، وملتهما حق أختيه من الميراث، ومسندا المحتلّين الفرنسيين، مع يقين بأن “الشريف” يدخلهُ الجنة “دمه”.
هذا الأب الذي بحث عنه “مولاي علي” طفلا، لفظه بعد جلسة حقيقة واحدة في عمر الرابعة عشر، وكتب مؤرّخا: “(…) خالته أحسنت صنعا حين أخبرته بحقيقة أبيه كاملة، هذا الذي ضيعه وضيع إخوته واستعبد أمه واعتدى على حقوق أختيه. مما أراحه من كل حقد على القتلة، ولا على الظروف، ولا على القدر، ولم يتحسر على اليُتم أبدا بعد هذا التاريخ”.
وتستمر الحكاية، ويستمر التاريخ… أم خرجت إلى عالم لا تعرفه، فارّة إلى مكناسةَ من زرهون، بعدما “كانت تسمع عما يقع في الدنيا من زوجها وابنيْها، وتتخيل شكل البشر والأشياء والطبيعة وغير ذلك، حتى أن ذاكرتها الجغرافية لا تتعدى المسافة الفاصلة بين كرمة بن سالم ودوار السكارنة عبر زكوطة”.
ويحكي علي الوكيلي، حكايات جحيم السنوات الأولى؛ زواجُ الأم وهي ابنة تسع سنين، لتخدم “جفّاف” حماتها التي علّمتها الريفية في زرهون، وهجرتها بعد مقتل الزوج، فقسوة الحاجة التي دفعتها إلى المعامل بعد حياة كاملة بين أسوار البيت، ودفعت أبناءها إلى العمل مبكرا، حتى نزلت “تضحية أحمد، الذي طلّق التعليم وتزوج المخزن”.
ويؤرخ الوكيلي لملامح العائلة: أخ مضحّ، آخر غضوب، أم بالغت في تدليله حتى صار مضرب مثل في “الفشوش”، واختلافات في الطباع والعادات واليوميّ بين ابن الخال، وصديقة الأم، والخال، والأخوين، ومغاربة وأجانب آخرين.
في كثير من فصول هذه “القصص السيرية” تأريخ لمحطات اكتشاف مولاي علي العالم: اختلاف الناس، براءته الأولى، تغير طباعه، استيعابه للجغرافيات التي قاده إليها قدر الترحال، معاني الأشياء، الجيد والسيء، التضحية والاستغلال، “مَن لنا” والآخر، إخطاءُ الحلم، الحب الذي أنطق قلمه…
رحلة طريفة لا تخلو من ألم، وشجاعة في التفكير والتقييد وإطلاق الأحكام، وفي الوقوف مع الذات؛ فيجد القارئ الصفات التي تُربط بشخصيات، كما يجد الاعتراف بالضعف والخطأ أو عدم الاستيعاب، ومن المحطّات ما يسرق بسمة “فاكَّ الحروف”، ومنها ما يؤلمه بعمق.
الكتاب تأريخ لزمن، منه المستمر إلى اليوم، ومنه ما توارى خلف باب “تلك أمة قد خلت”، وهو أيضا تأريخ لشخصيات مغربية، يمكن قراءة مسارها، المتقطّع تَقَطُّع الذكريات، منفردا.
من أكثر المحطّات مُتقنةِ الحبكة، بيّنةِ اللوعة، حبّ “إليا” بنت الملاح الجديد بمكناس؛ وقفة مرة مع الذات، وعتاب على الموروث.
وقفة أخرى أفرد لها الكاتب بضع صفحات متحدثا عن إيمانه وقد جاوز سن التقاعد، بعد صفحات لمّح فيها إلى بعض ما يعتور الشخصية والمعيش المغربيين: “لا أذكر أنني وجدت يوما مناخا لحرية الاختيار، حتى وأنا بالجامعة، ورغم أني كنت قاعديا فإني لم أمارس الشغب الحرام إلا في محيط الحرم الجامعي بظهر المهراز، في الخارج أكتم الحقيقة لأن الناس لن يقبلوها مني”.
هذا العمل رحلة تَثِب بين العقود وثْبَ الحياة نفسها: من الطفولة إلى الكهولة مرورا بشيء من الشباب، من البدايات إلى النهايات، في العلاقة بالمكان، والطّلب، والعمل، والناس.
“نسمة مغربية” تأريخ مثير للاهتمام لتجربة عيش خاضها علي الوكيلي، استعاد تفاصيلها، فكّر فيها، خطّها، ثم تركها للقارئ ليعي شيئا عن حياةٍ مغربية من حيواتِ بلده، أو حياة إنسان في بقعة من بقع العالم الواسع، يقول بعد عمر: “لم أندم على شغب جميل لا يمحوه التاريخ أبدا”.
المصدر: وكالات