يقولون إنّ أجواء “العيد الكبير” تغيّرت، وأنّ الأعياد فقدت قيمتها الرمزية بسبب التحولات القيميّة والثقافية والاقتصادية والمجتمعية، التي يعيشها المغرب. لكنّ الريصاني، المدينة الصغيرة الموجودة بالجنوب الشرقي، تخبرنا بجزء خفيّ من حكاية التحول هذه. ويبدو أن الأمر لا يُفهم عفويا أو ببساطة، بيد أنّ صبيحة العيد اليوم تشعرنا بوجود طقوس مُتراصّة حافظ عليها الكائن الفيلاليّ، وجعلها معبراً عن وجوده خلال عيد الأضحى.
وقبل أن تبدأ “شلالات” الدماء، جراء ذبح الأضاحي، تتزين هذه المدينة بالصّمت والبياض، بياض الجلابيب الرّجالية، التي تبصرها في كلّ رُكن من الشارع، وفي كل زقاق، وكلّ حيّ صغير داخل المدينة. روائحُ المسك والبخور تنبعثُ من الأحياء، بينما الحركيّة غير المعتادة توحي بأنّ أكثر من 60 بالمائة من أبناء المدينة المغتربين يعودون إلى تافيلالت خلال عيد الأضحى. لكلٍّ مبرّراته في العودة، لكنّ “التّواطؤ مع الأجواء” يبقى السّبب الأبرز.
الوافدون إلى البلدة
محمد كورو، شاب يبلغ من العمر 24 سنة ويشتغل في شركة بمدينة الجديدة، اعتبر أنّ “أجواء العيد في الهامش ليس كمثلها شيء”، مضيفا أنّ “الريصاني وطقوس العيد فيها تتمتّع بقُدرة غريبة على الإمساك بالمُشترك، خصوصاً القيم؛ فقد ظلت هذه المدينة حالمة بالنسبة لي، حالمة بأن تتطور وتغدو مدينة بمعايير عصرية، لكنّ إحراج الفاعل السياسيّ لأفقنا لا يكاد يتوقّف أبداً”.
وأوضح كورو، في تصريح لهسبريس، أنّ “أجواء الفرح واللمّة العائلية، التي تتيحها لنا هذه المدينة خلال عيد الأضحى، تخلّصنا من هاجس التّشرد واليُتم الذي يعترينا ونحن في مدينة لا نعرف فيها أحداً من جيراننا”، مضيفاً بحماس أنّ “بساطة أهلي تعلمني معنى التواضع، تعلمني أن أظل مسالما تجاه الآخر، وأن أروّض خبث الناس من حولي، لذلك أعود؛ فقيمُ هذه المدينة هي خزّان يُسعفنا للعيش في مدن ضخمة لا تُشبهنا”.
ربّما لا يستطيع كورو أن يضيّع فرصة عيد الأضحى وسط الأهل، لكن ربما ذلك ما يكون، أيضاً، بالنّسبة لأحمد كريمي (27 سنة)، الذي ولّى وجهته شطر مدينة الريصاني، تاركاً خلفه “خرابَ الأفق” بمدينة مكناس الإسماعيليّة. وتحدث أحمد قائلاً إنّ “الأضحية يمكن أن تكون متوفرةً في أي مكان، لكن أجواء العيد بمدينتي لم تتعرّض للمَسخ بعد؛ لم تبتلعها الحداثة أو العولمة التي تريد أن تحوّلنا إلى كائنات متوحّدة ومُنعزلة باسم الانتماء إلى التّاريخ”.
وتابع أحمد، وهو يتحدث لهسبريس، أنّ “صلة الرّحم التي ما زلنا نعطيها قيمة مهمة في صبيحة العيد، لا أثر لها في أماكن كلّ شخص فيها يغلقُ باب شقّته ويغلق هاتفه تفاديا لما قد يعتبره إزعاجا مغلّفا بالتّهاني والتّبريكات”، مضيفا أنّ “الناس في الريصاني لا يزالون يجهّزون المائدة منذ الصباح، ويتركونها على حالها لأنهم يعلمون جيداً أن شخصاً ما سيمرّ، سواء كان قريباً أو بعيداً أو جاراً أو عابراً؛ ومن ثمّ هذا التشوّف إلى الترحيب بالآخر، إلى احتضان الآخر، يجعل العيد إدمانا في هذه المدينة النّائية عن كل أشكال التّمدن”.
ولفت المتحدثُ إلى أنّ عيد الأضحى ظلّ على الدوام برمزية خاصة عند الفيلاليين، “وكنا نتذكر أنّ المتخاصمين يتصالحون فيه، وبعض الدائنين يتنازلون عن ديونهم بهذه المناسبة في بعض الحالات، حتى أن من هجر أهله بلا إخطار مسبق يعود ليطلب الصفح والغفران”. واسترسل قائلا: هكذا ظلّ عيد الأضحى بمهمّات ثقافية كبيرة عند الفيلاليين، ومهما غادر الكثيرون نحو فضاءات أرحب حيث فرص العمل، فحياة المدينة التي نتحول فيها إلى “ماكينات” تحتاج إلى تزكية موجودة حصراً في الريصاني”.
موطن النيّة
يوصفُ المجتمع الواحيّ الفيلاليّ بأنّه حليفٌ أصيلٌ لمفهوم “النيّة”. فما الذي يعنيه هذا المفهوم بعيداً عن أقوال الأكاديميين؟ تجيبنا وداد الداودي (29 سنة)، التي تمتهنُ التعليم بمدينة القنيطرة، بأن “النيّة هي التربية التي ننمو بها، هي العقيدة المجتمعيّة التي تؤصّل وجودنا لتدبير حياتنا مع الآخر”، مشيرة وصوتها يرسل شيئا من الاعتزاز إلى أنّ “هذه النيّة بالضبط هي التي تجعلنا نحظى باحترام كبير عند أبناء المدن الكبرى”.
وقالت وداد، في حديثها إلى هسبريس: “أنا أعود إلى الريصاني لكي آخذ جرعات جديدة من هذه النية، والأعياد والأعراس والمناسبات المهمة فرص لا أفلتها حتى أتشبع بالمزيد من ثقافة أهلي، من بساطتهم، ومحبتهم وكرمهم”، مفيدةً بأنّ “هذه السلطة الرمزية تكبّل كافة تصرفاتنا، فنحن علينا أن نكون سفراء رائعين لثقافة لا يمكن نهائيا أن تجعل الآخر بياضاً بقدر ما تضفي عليه ألوانها، المتمثلة في النبل وحبّ الخير”.
لكن ألسنا اقتربنا من المبالغة وكأننا نتحدث عن مجتمع مثالي أو ملائكي يخلو من الشّوائب؟ وهو يريد الجواب، يودّ إسماعيل العلوي (30 سنة) أن يقدم قولاً يتّسم بالأصالة، لكنه يصرحُ في النهاية أنّ “قوة مجتمع الريصاني تكمن في قدرته على الحفاظ على عاداته في الأعياد، من صلة رحم وتجمعات عائلية، وخصوصا العائلات الكبيرة التي تنضوي تحتها عائلات أخرى”، موضحا أنّ “هذه الأشكال من العيش تفكّكت نسبيا في المدن، بينما الريصاني لا تزال محاصرة بقيم تؤثث وجودها، والتي لا تستطيع خرقها حتى لو أرادت ذلك”.
وأضاف أنّ “ثمّة أجواء لا تستطيع أن تعثر عليها في مكان آخر لأنه من الصعب ألا تلحق بركب العالم وبتطوره، ولا يلام النّاس في هذه الرّقعة القاحلة لأنهم صادقون أو لأنهم طيبون أو متمسكون بتراثهم”. واستطرد قائلاً: “أنا أعيش في فرنسا، لكنّي أحبّ قضاء العيد مع أفراد العائلة، الذين لو جئتهم بخروف سمين من سلالة “الصردي”، لرفضوه في الحين بذريعة الانتصار للسلالات المحلية، وعلى رأسها “الدّمان””.
ولفت إلى أنه يهجر المنطقة والبلد طيلة السنة، لكنه يصرّ على قضاء عيدي الفطر والأضحى بالريصاني، رغم أنّ كثيراً من أصدقائه، من أبناء المدن الكبرى، يعتبرون ذلك مضيعة للوقت والمال والجهد. وتابع قائلا: “هم لا يفهمون حجم العلاقة التي تربطنا بالأرض وبالتّراب والأصل. مرة أحضرت والديّ في زيارة خفيفة لفرنسا، فلم تُعجبهما واعتبرا أن الريصاني أفضل من فرنسا كلها. هل ألومهما؟ لا أستطيع، فأنا أشعر بهما وأتفهّم موقفهما حين أعود إلى البلدة كلّ عيد أضحى”.
المصدر: وكالات