كان الموت زائراً يومياً لكل السجناء، بل كان حلماً في مثل هذه السجون الخالية من الضوء، حتى الانتحار كان حلماً بالنسبة لهم، فالسجن والمهجع (غرفة كبيرة تجمع السجناء)، كان خالياً من أي شيء سوى الجدران التي لا يعرفون لونها.
دخل (أ.س) السجن وهو في الثلاثين عاماً؛ ترك ابنه الرضيع وزوجته الشابة، ولم يفكر يوماً أنه سيخرج من تحت الأرض إلى الحياة التي نسي شكلها ولونها، كانت الشمس التي يراها كل شهر كل ما يراه من العالم.
يروي الرجل قصته، وكأنها قصة أهل الكهف الذين رقدوا 100 عام، لكنه لم يكن نائماً كان الزمن بالنسبة له الأنفاس التي يتنفسها ويحسبها في كل يوم، في غرفة لا تتجاوز خمسة أمتار ويعيش فيها 30 سجيناً. هذه ليست حكايا بل حقيقة يدركها كل سجين، 30 شخصاً في غرفة صغيرة يتناوبون على النوم وعلى الجلوس وعلى التنفس وعلى الحياة، دون أن يعرفوا كيف! هذه هي القواعد في السجن، أن تعيش يوماً بيوم فقط.
27 سنة قضاها (أ.س) ولا يعرف كيف يحتمل البشر كل هذا، لم يتمكن من الحديث عن التعذيب الذي طال كل أعضاء جسمه ولم يتوقف طوال السنوات العشر الأولى؛ عشر سنوات من التعذيب المستمر اليومي، لكنه يختلف بين سجان وآخر، ثمة طرق متعددة في التعذيب، لم يتجرأ أن يتحدث عنها لأنها أصبحت كابوساً.
الثامن من ديسمبر 2024، كتبت حياة جديدة للآلاف من السجناء الذين كانوا يعدون الأيام للموت لا للحياة، لكن إرادة الله فوق كل الإرادات التي حررت (أ.س) من السجن بعد كل هذا الغياب.
الكلمة الأولى التي نطق بها الرجل عند الخروج أنتم جيش صدام حسين، هل اجتاح صدام حسين سورية، كل ما يعرفه الرجل توقف عند عام 1997، وهو يظن أن الأسد وصدام ما زالا على قيد الحياة، ليكتشف أن الزمن غير الزمن حتى المكان غير المكان، فهو لا يعرف أين هو مسجون.
ساعات من التفكير والتأمل قضاها الرجل وهو يحاول أن يعرف أنه في عام 2024، وأن هناك شخصاً اسمه بشار الأسد لا حافظ الأسد، لقد كان في الجحيم على قيد الحياة.
أولى الصدمات في الحياة الجديدة، أن ابنه الذي تركه رضيعاً قتل في الحرب، وزوجته أكملت حياتها لتكون مع رجل آخر وعائلة جديدة، أسستها بعد رحيله عن وجه الأرض، كانت الصدمة التي أنهت على ما تبقى من حياته ومن جسده المعلول بالأمراض والأوبئة.
الأمر الوحيد الذي يواسيه هو سقوط الأسد وانتظار عودة عائلته التي هجرها نظام الأسد إلى تركيا، لكنها تستعد للعودة من جديد.