كما تعكس هذه البيئات الفريدة التوجه العام للمملكة الذي رسمت رؤية السعودية 2030 خارطته لتحقيق التنمية البيئية من خلال إثراء التنوع الأحيائي وحماية الأنظمة البيئية وتحقيق التوازن فيها، وضمان استدامتها وازدهارها، وصولاً إلى التوسع في مساحات هذه المحميات لتشكل 30% من مساحة المملكة البرية والبحرية بحلول عام 2030 وفق مبادرة السعودية الخضراء، التي تزامن إطلاقها مع الإعلان عن الخريطة الوطنية للمناطق المحمية 30×30 التي أعدها المركز الوطني لتنمية الحياة الفطرية عام 2021.
ومن بين هذه الكنوز الطبيعية برزت محمية (عروق بني معارض) التي يشرف عليها المركز الوطني لتنمية الحياة الفطرية بكل ما تحمله من قيمة عالمية استثنائية بعد أن تم تسجيلها في قائمة التراث العالمي لليونسكو كأحد أبرز مواقع التراث الطبيعي العالمي، لتصبح سابع المواقع التراثية بالمملكة التي يتم تسجيلها في هذه القائمة.
هذه المحمية الناطقة بالجمال الطبيعي الذي تتعانق فيه البحار الرملية مع السلاسل الجبلية الشامخة في جنوب المملكة على طول الحافة الغربية لصحراء الربع الخالي، تمتد على مساحة تتجاوز 12,500كم2، مُحتضنةً أغنى تنوع أحيائي وطبيعي وجيولوجي في الصحراء، حيث تضم أكثر من 120 نوعاً نباتياً وتزدهي بقطعان المها العربي الحر الذي أعيد توطينه ضمن برامج المركز الوطني للحياة الفطرية في الإكثار وإعادة التوطين بعد اختفائه عام 1979، ليكون ذلك شاهداً على قصة العودة من غياهب النسيان إلى الركض في مضمار الطبيعة، إلى جانب أنواع لا حصر لها من الحيوانات والطيور، مما جعلها نموذجاً نوعياً نادراً للتطور البيئي والبيولوجي البديع الذي يصنع الدهشة من خلال الموائل المتنوعة والتشكيلات الأرضية النادرة فيه.
هذه المحمية الفريدة التي تمثل واحدة من قصص النجاح الاستثنائية في إنماء الطبيعة والارتقاء بتراثها، وتحدي الانقراض، تحملُ الكثيرَ من الأبعاد القيمية والحضارية التي تؤكد أن بلادنا رغم كل ما توليه من اهتمام لبناء الإنسان وتنمية المكان فإنها حريصة أيضاً على ازدهار البيئات الطبيعية بكل ما يحمله ذلك من قيمة مضافة في معادلات التنمية.
ولعل ذلك يحتم علينا الاستمرار في جهودنا التوعوية بأهمية حماية البيئة والتصالح مع مكوناتها واستعادة أدوارها التنموية.
كما يحتم أيضاً بذل مختلف القطاعات المزيد من الجهود للحفاظ على المنجزات وتنميتها، فتسجيل محمية العروق في قائمة التراث العالمي الذي تم بعد جهود ملموسة قدَّمها المركز الوطني لتنمية الحياة الفطرية في تواصله مع المنظمة واستقبال فرقها البحثية وتقديم التسهيلات والدعم اللوجستي لها، نقول: إن تسجيل المحمية يستلزم مواجهة كافة المخاطر والتحديات التي قد تواجه ديمومة بقاء المواقع المسجلة في قوائم التراث العالمي مستقبلاً في ظل تعدد وتغير المعايير التي تضعها اليونسكو للمواقع المسجلة في قائمة التراث العالمي بين فترة وأخرى.
ولعلنا ندرك أهمية تعميق الاستفادة من هذه المحمية وغيرها من منظومة المحميات في دفع عجلة التنمية الاجتماعية والاقتصادية من خلال تحفيز الاستثمارات السياحية في المناطق الطبيعية، وتعزيز أنشطة السياحة البيئية المتنوعة المرتبطة بسحر هذه البانوراما التراثية الطبيعية، بما يدعم استدامتها، وبما يساهم في تعظيم أثرها في تحقيق النمو الاقتصادي، إلى جانب تأثيرها الفعال في تنمية المجتمعات المحلية المجاورة للمناطق المحمية التي تؤسس لصناعة (جودة الحياة) من خلال توظيف أبناء المجتمعات المحلية واحتضان أفكارهم ومشاريعهم الابتكارية في ريادة الأعمال، إضافة إلى الاستفادة من هذه المحميات في تعزيز الصحة العامة من خلال ممارسة رياضة المشي وغيرها من الرياضات البدنية، والأنشطة السياحية المتنوعة كالتخييم والتزلج على الكثبان والمغامرات في مسارات تلك المحميات.
هذه المستهدفات التي حقق المركز الوطني لتنمية الحياة الفطرية الكثير منها بالتعاون مع العديد من القطاعات ذات الصلة، ما زلنا نتطلع إلى توسيع آفاقها بمزيد من فاعلية التعاون والعمل التكاملي من قطاع الأعمال بما يصب في بوتقة التنمية ويدفع بعجلة النمو، ويساهم في تحقيق محاور رؤية المملكة التي تلامس: «حيوية المجتمع وطموح الوطن وازدهار الاقتصاد».
ولأن الشيء بالشيء يُذكر، فإن إذكاء دافعية العمل التطوعي وما يحمله من قيمة أخلاقية في ميادين المسؤولية الاجتماعية يحتم تضافر جهود جميع القطاعات لاستثمار قدرات المتطوعين المحترفين في المجال البيئي لتعزيز آليات الحماية داخل محمية العروق وغيرها من المحميات، إضافة إلى استثمار جهودهم – إلى جانب الجوالين – في توعية الزوار بطرق المحافظة على هذه الكنوز الطبيعية الخلاقة وكيفية إنمائها وحمايتها من التلوث.
وفي الختام.. نستقطع من شجون الحديث ما نراه قلادة على عنق محمية عروق بني معارض وباقي المحميات الطبيعية، ونعني به تلك الجهود الملموسة التي بذلها المركز الوطني لتنمية الحياة الفطرية في مجال التحول التقني وتعزيز الابتكار وإضافة تقنيات جديدة أضحت من العلامات الفارقة في تطوير هذه المحمية وغيرها، والتي نلمسها بوضوح من خلال تبني تقنيات طائرات الدرون في أعمال المراقبة والاستطلاع، وتطوير نظام مراقبة الطيور عن طريق الأطواق، والرصد الذكي لجميع بيانات التنوع الأحيائي، إلى جانب تطوير أنظمة المستشعرات البصرية وكاميرات الرصد والاتصالات اللاسلكية بالأقمار الصناعية.
وفي ظل هذه العطاءات البارزة، المتزامنة مع فاعلية الإدارة المستدامة التي ينفذها المركز وفق أفضل المعايير والتجارب العالمية، هل نرى مزيداً من الجهود الجماعية التي تعزز الأبعاد القيمية لهذه المحمية وغيرها من المحميات من كافة القطاعات، حتى نساهم معاً في وصول أعدادها إلى 100 محمية بحلول عام 2030؟ ذلك نرجوه.