إن تجربة خان الثرية المعالم والبالغة التأثير تستحق الغوص في أغوارها، والاطلاع على تفاصيلها وتتبع ملامحها الفريدة، خصوصاً أنه برع في إحياء وإبراز التراث القديم وتقديمه بصوته العذب من خلال نهج مختلف ومتطور لم يُجارِه فيه أحد من مجايليه.
كتب عنه الباحث عصام خليدي في صحيفة «عدن تايم» (7/4/1922) قائلاً «حين تسمعه تتحول الجمل الموسيقية إلى سيناريوهات ولقطات بصرية منظورة تبين خصوصية مدينة المكلا وحضرموت وملامحها ومزاجها وبحارها وشواطئها وجبالها، وأزقتها وبناءاتها المعمارية الهندسية الشاهقة والباذخة (المتفردة) بصورة عامة والتي رمت بظلالها الفنية والثقافية على نكهتها ومذاقها وهويتها المستقلة في خارطة الغناء اليمني بشكل عام».
وكتب الكاتب اليمني عزيز الثعالبي في صحيفة «14 أكتوبر» (ديسمبر 1979)، مشيراً إلى ما كتبه عنه المؤرخ الحجة محمد عبدالقادر بامطرف، من أن خان كان «يمد لحن الأغنية وكلماتها بروح من عنده، يقيم به جسراً من البهجة والسرور يربط بين الحس الموسيقي في السامع والفيض الفني الصادر عنه هو.. إنه لم يكن من أولئك المعيدين الذين تنبو عنهم العين ويندم على لقياهم النديم، ولم يكن من أولئك المغنين الذين بينهم وبين المستمعين سد منفر من قبح المنظر وكثافة الطبع».
بيئة موسيقية
ولد «محمد جمعة عبدالرزاق خان» عام 1903 في قرية «قرن ماجد» بوادي دوعن بمحافظة حضرموت، لأب هندي من البنجاب وأم حضرمية تدعى «فاطمة يسلم بهيان». إذ كان والده من المحاربين الذين استقدمهم السلطان عوض بن عمر القعيطي سلطان الدولة القعيطية الحضرمية ذات الارتباطات الوثيقه بالهند كي ينضمّوا إلى جيشه لتثبيت أركان حكمه. ونشأ وسط بيئة شغوفة بالطرب والغناء، حيث كان والده مهتماً بالغناء ويملك مكتبة من الأسطوانات الهندية والعربية، وأخوه الأكبر أحمد كان صاحب صوت رخيم وملحناً وعازفاً على آلة «الهارمونيكا»، وأخوه الآخر عبدالله كان بارعاً في الضرب على الرِّق، بينما أخوه الثالث عبدالقادر كان مجيداً للعزف على مختلف الآلات النحاسية، وكان أخوه الأصغر سعيد عازفاً ماهراً على «الكلارنيت». وهكذا كان لنشأته الأولى وسط تلك البيئة الموسيقية دور في تعلقه بالغناء منذ صغره، بدليل أنه حينما التحق بالتعليم الابتدائي، من بعد دراسته في كتاتيب المكلا، كان بارعاً ومتفوقاً على أقرانه في حفظ وترديد وتلحين الأناشيد المدرسية.
في سن الخامسة عشرة (عام 1918)، التحق بالفرقة الموسيقية للسطان القعيطي عازفاً بمرتب ثلاثة ريالات شهرياً، فتعلم العزف على العديد من الآلات الموسيقية تحت إشراف قائد الفرقة الضابط الهندي عبداللطيف، وتعرف على معزوفات الفرقة من الأغاني الغربية والهندية، وتخصص في العزف على آلة «السمسمية» الوترية، قبل أن ينتقل للعزف على آلة «الكلارنيت». في أثناء ذلك، عشق خان العزف على العود وأجاده وتفوق فيه على يد مواطنه المطرب «سعيد العبد»، فصار العود مذّاك رفيقه ونديمه، كما تعرف على الألحان العربية الحضرمية عن طريق مطرب شعبي من تلامذة الفنان الشيخ سلطان ابن الشيخ علي هرهرة (ت: 1900 في بومباي) وهو المطرب «سعدالله فرج»، وأجاد عزفها بفضل موهبته واستعداده الفطري.
الموسيقى العربية في الفرقة السلطانية
في العقد الثاني من عمره، حدث أن تُوفي قائد الفرقة الموسيقية، فاختير بديلاً عنه، وقام بإدخال الموسيقى العربية إلى الفرقة السلطانية لأول مرة، وظل كذلك إلى أن أُحيل سنة 1947 إلى التقاعد بطلب منه، بعد 29 سنة من خدمة الفرقة السلطانية، كي يتفرغ لفنه ويحترف الغناء مع فرقة موسيقية خاصة به أسسها آنذاك، وأدخل فيها آلات موسيقية لم تكن ذات حضور آنذاك في حضرموت مثل الكمان والرِّق والإيقاع. ومع تحرره من قيود الوظيفة وامتلاكه فرقة خاصة به ازدادت اهتماماته بألوان الغناء الحضرمي، ولاسيما الموشحة الحضرمية، لما فيها من سحر وجمال، فأخذ يقتبس من تلك الألوان الغنائية ويصبّها في قوالب جديدة راقصة بتوقيعه، جعلت الناس تنكبّ عليها وتتذوقها بديلاً عن الألحان العربية والهندية الوافدة.
الأناشيد الدينية
من جهة أخرى، شدّت الأناشيد الدينية انتباهه بعد أن لاحظ وجود تنافس شديد بين فرقها في المكلا والشحر وغيرهما، فقرر أن يخوض مجالها كي يستفيد منها مادياً وفنياً. ولهذا راح يتتبع أخبارها وألحانها ومجالسها، بل اتصل بأحد كبار منشدي حضرموت الدينيين وهو الشيخ عبدالله صالح باعشن، وأخذ منه العديد من الأناشيد الدينية التي حوّرها وطوّرها وأدخل عليها الآلات الموسيقية كالعود.
وهكذا تمكن خان من تثبيت قدميه على امتداد التراب الحضرمي كمطرب لا منافس له في الصوت والتلحين والأداء، بل امتدت شهرته إلى حضارم المهجر الذين راحوا يدعونه للسفر إليهم في مهاجرهم للغناء وإحياء حفلاتهم الخاصة، لاسيما أنه كان مجيداً لمختلف أنواع الغناء (العاطفي والسياسي والاجتماعي والديني). وكان خان كريماً في تلبية تلك الدعوات، فقد سافر أولاً إلى كينيا، يرافقه صديقه ونديمه عازف الكمان البارع سعيد عبدالله الحبشي، ثم جاءت رحلته الثانية وكانت إلى الحبشة والصومال، فرحلة ثالثة إلى جيبوتي، فرحلة رابعة إلى الكويت التي تردد عليها أكثر من مرة، كان آخرها سنة 1960 (قبل وفاته بثلاث سنوات)، حينما مكث فيها شهراً كاملاً، أحيا خلالها العديد من حفلات الزواج والجلسات الشعبية، وسجل أثناءها أيضاً عدداً من الأسطوانات لصالح شركة «بوزيد فون». كما قام برحلة إلى المملكة العربية السعودية التي أقام بها لمدة سنتين، تنقل خلالهما بين مدن الحجاز ونجد، وأنتج أثناءهما بعض الأعمال التي جاءت متأثرة بالألوان الحجازية والنجدية. وفي كل هذه الأقطار أحيا حفلات غنائية عامة وخاصة زادته شهرة ونجومية وتألقاً وجمهوراً.
الانتقال إلى عدن
وطبقاً لما أورده الفنان اليمني المعروف محمد مرشد ناجي، في كتابه «الغناء اليمني القديم ومشاهيره» الصادر سنة 1984، فإن مدير إذاعة عدن في تلك الفترة «حسين أحمد الصافي»، استغل ما حققه خان من شهرة فاستدعاه إلى عدن وتعاقد معه على تسجيل 30 أسطوانة من أغانيه. والحقيقة أن انتقاله من حضرموت إلى عدن شكل منعطفاً مهماً في حياته، بسبب مكانة عدن آنذاك كميناء مفتوح وواحد من أهم المراكز الحضارية والثقافية المتمدنة في جنوب شبه الجزيرة العربية، حيث نشط هناك فنياً كما لم ينشط من قبل، وكثر المعجبون والمتأثرون به وبفنه، وانهالت عليه العروض تباعاً لتسجيل أغانيه على أسطوانات لدى تسجيلات «المستر حمود» (40 أسطوانة)، ولدى «عزعزي فون» (60 أسطوانة)، ولدى «عيدروس الحامد» (12 أسطوانة).
ومن أهم الأعمال الغنائية التي سجلها خان ولقيت صدى طيباً لدى الجمهور وذاع صيتها في أقطار الخليج والجزيرة العربية وبين الحضارم في أفريقيا وجنوب شرق آسيا: «نالت على يدها»، «نادمته على الصفاء»، «يا حبيب القلب صلني»، «يا رسولي توجه بالسلامة»، «رمش عينه بريد المحبة»، «بالغواني قلبي مولع»، «حي ليالي جميلة»، «بسألك يا عاشور»، «عذبتنا يا خفيف الروح»، «أتت هند شاكية لأمها»، «مهفهفة بالسحر من لحظاتها ** إذا كلمت ميتاً يقوم من اللحد»، «عاد قلبي معك»، «عليك العمد يا رب لا خاب من قصد»، «يا من تحل بذكره عقد النوائب والشدائد»، «جاءت تجر ذيول التيه»، «اسلمي يا موطني يا أرض عاد»، «يا عظيم الرجاء تحت بابك»، «يا مصر يا وطن الكمال»، «صليني فإن فؤادي للهوى صادٍ»، «حبيبي قد أذقت القلب تعذيباً وهجراً»، «مايس القدّ عوّد بالتلاقي»،«يا من على البعد أهواها وتهواني»، «أنا وخلّي تراضينا»، «ناجت عيوني عيونه»، «يا نديم الصبوات أقبل الليل فهات»، و«حنانيك يا من سكنت الحنايا»، وهذه الأغنية الأخيرة اقتبس لحنها من أغنية هندية قديمة ظهرت سنة 1951 في فيلم «مدهوش Madhosh».
تعلم النوتة بنفسه
والملاحظ هنا، أن فناننا كان حريصاً على انتقاء كلمات أغانيه، فقد كان مؤمناً بأن الكلمات الرديئة المبتذلة لا يمكن أن تصنع فناً عظيماً، بل إنها تشوّه صورة الفنان وتحط من كرامته وكبريائه، وهو لم يكن يتسامح إطلاقاً مع أي محاولة تسيء إلى اسمه أو فنه أو سمعته، بدليل أنه تزوج وتحمّل مسؤولياته الأسرية في سن صغيرة، كيلا يتعرض إلى القيل والقال والشائعات من تلك التي تطارد عادة أهل الفن والطرب.
وبالرغم من أن الرجل لم يكمل تعليمه النظامي، إلا أن ما ساعده على حسن اختيار كلمات أغانيه من قصائد لشعراء العرب القدامى والجدد (مثل عنترة وعمر بن أبي ربيعة وعمر بن الفارض والشريف الرضي ويزيد بن معاوية وأبو فراس الحمداني وابن زيدون والبهاء زهير وأبو العتاهية وأحمد شوقي والأخطل الصغير وعباس محمود العقاد)، ومن قصائد كبار شعراء حضرموت واليمن (مثل العيدروس وحسين أبوبكر المحضار وسعيد مرجان ويسلم باحكم وعبدالرحمن باعمر وعبدالرحمن البرعي وعبدالله محمد باحسن وعوض ابن السبيتي وحداد بن حسن الكاف وحسين محمد البار وصالح عبدالرحمن المفلحي)؛ هو تجارب الحياة والقراءة والاحتكاك وملكاته الخاصة واستعداده الفطري للتعلم. وليس أدل على الشق الأخير من حقيقة أنه تعلم النوتة الموسيقية بنفسه، فكان أول من أجاد من فناني حضرموت واليمن النوتة، وكتب بها الألحان على خلاف غالبية معاصريه الذين كان أكثرهم بالكاد يقرأون الأبجدية، ما جعلهم يغنون على السماع والمشافهة والتقليد.
مبتدع اللون الحضرمي في الأغنية
حينما تُوفي خان بمدينة المكلا في 25 ديسمبر 1963 ودفن فيها بمقبرة يعقوب، من بعد عامين من مرض عضال ألزمه الفراش، كان قد تزوج أربع نساء، وأنجب ثلاثة أبناء من إحداهن فقط، ومن بينهم ابنته الإعلامية أفراح جمعة خان، التي عُينت سنة 2014 مديرة لإذاعة المكلا، في تعيين غير مسبوق لسيدة حضرمية.
وفي ما يتعلق بمسألة غرسه بذور الأغنية الحضرمية في الخليج، وجدت في تقرير بهذا الخصوص لوكالة الأنباء الكويتية (12/12/2009) ما ذكره المهتم بتراث الفن العدني في الكويت الدكتور ضاري الرشيد، من أن «الخلفية الأسرية المختلطة أتاحت لخان أن يبتدع لوناً غنائياً جديداً يختلف عن الألوان الموسيقية اليمنية الدارجة آنذاك فاستلهم من تراث أبيه الهندي بعض الألحان والأوزان والضروب الإيقاعية ثم فرش عليها القصائد العربية الكلاسيكية والأشعار الحمينية اليمنية»، موضحاً أن تسمية ذلك اللون من الفنون بـ«العدنيات» ليس دقيقاً، لأن الرجل من حضرموت وعاش فيها ومارس فنه بها، «لذا فإن الأصح تسمية موسيقاه بالحضرمية، ولكن مريدي هذا اللون في الكويت نسبوه إلى عدن مجازاً، ربما لكون ميناء عدن هو المحطة الأشهر في خطوط سفر الكويتيين الأوائل». وهذا صحيح، حيث شكلت عدن في ثلاثينيات القرن العشرين محطة ترانزيت للكويتيين في رحلاتهم البحرية إلى زنجبار وممباسا، فكانت بداية تعرفهم على الفن العدني، خصوصاً أن خان كان يصعد مع فرقته إلى متن سفنهم التجارية الراسية ليحيي لهم جلسات السمر مؤدياً أغاني الصوت الكويتي التي أجادها إضافة إلى أغانيه الحضرمية.
وكان من نتائج ذلك انتقال الفن الحضرمي إلى الكويت والخليج عبر أولئك التجار والبحارة، ومنهم إلى مغنين كويتيين مثل عبدالله فضالة، الذي احتوت أسطواناته المسجلة في الأربعينيات على بعض الأغاني العدنية الرائجة، وتبعه في ذلك الفنان حمد خليفة في الخمسينيات. وبيّن الرشيد أن خان غرس بنفسه بذرة فنه المبتكر في الكويت حينما زارها في الستينيات، إذ تزامنت تلك الفترة مع قدوم عدد من الموسيقيين اليمنيين إلى الكويت إما للاستقرار والعمل فيها أو لتسجيل الأغاني وإحياء الحفلات، حيث ساهموا بدورهم في رواج الألوان الغنائية الحضرمية والعدنية واليمنية في الكويت والخليج.
على أن من الواجب الإشارة إلى أن انتشار تلك الألوان من الغناء في السعودية وتأثر بعض فنانيها بها كان سابقاً لانتشاره في الكويت وجاراتها، بسبب ارتباط الحجاز مثلاً بحضرموت اجتماعياً وثقافياً وفنياً منذ تاريخ أبكر، ناهيك عن وجود جالية كبيرة من الحضارم في الحجاز منذ قرون من الزمن.
ونختتم بالإشارة إلى صدور عدة مؤلفات عن الخان منها: كتاب «الوتر الدان في حياة الفنان محمد جمعة خان» لعبدالرحمن محمد عماري في سنة 1970، وكتاب «محمد جمعة خان، حياته وفنه» لعمر أحمد بن ثعلب في سنة 1981، وكتاب «محمد جمعة خان: فنان اليمن وشبه الجزيرة العربية» لفاضل أمين في سنة 1989.