فيما تؤكد الشاعرة زينب غاصب أن جانباً من الإشكالية يتمثل في تهميش المبدع، فيلجأ كل هؤلاء المبدعين إلى العطاء عبر حساباتهم على السوشيال ميديا، وإن همّشتهم المناسبات والفعاليات الثقافية، وقالت ربما هناك نوع من الجهل يعاني منه القائمون على الفعاليات، بحكم دخول شباب في ترتيب وتنسيق وتوجيه الدعوات، وهم لا يعرفون أسماء هؤلاء المبدعين القدامى، في ظل حمى منافسة المشاهير على ميدان الميديا، ممن لا ينتسبون للثقافة ولا للإبداع، وعزت إلى كبرياء البعض زهده والاكتفاء بالانزواء والعزلة كونه لا يجد التقدير خصوصاً والمشهد الثقافي منصب على الوجوه الجديدة وتلميعها، وحمّلت الصحف والمجلات وغيرها من قنوات الإعلام شيئاً من المسؤولية، كونها غدت من أدوات الميديا، وتضيف بأن انحسار دور الأندية الأدبية له أثره كونها كانت تمتلك قاعدة جماهيرية وخبرة في أساليب التعامل مع المثقف، وترى أن الإبداع تعدد وانفتحت مجالات منها السينما والمسرح والترفيه وغيرها، مما بات يستقطب الشباب من الجنسين. وأضافت هناك من تعرّض لظروف صحية أو اجتماعية خاصة به.. ولفتت غاصب إلى أن المشهد الإبداعي الكلاسيكي بحاجة ماسة إلى غربلة، تتيح الفرص للجميع، وإعادة النظر في بعض الجهات خصوصاً أن المقاهي الثقافية الموجودة الآن لا يحضرها الجمهور كما يحضر في الأندية والملتقيات، والمشاركات انتقائية محصورة في جمعيات أدبية وسفراء في المناطق لا يخدمون المشهد الإبداعي بموضوعية، كون الجديد يخدم جيله وما يؤمن به إبداعياً ولا يلتفت للآخرين من السابقين وغيرهم، مضيفة أن غياب المهرجانات مثل الجنادرية، وسوق عكاظ وغيرها له دور في خفوت الوهج، وعبّرت عن خشيتها من تلميع المشاهير على أنهم هم المثقفون.
فيما قال الشاعر محمد عابس: «لا أستطيع الحديث نيابة عن أحد من الزملاء والأساتذة الشعراء أو الكتّاب، ولكن بقراءة المشهد بموضوعية ومصداقية لمست أن هناك أسباباً مختلفة تخص هذا أو ذاك من المبدعين، منها الإحساس بانحسار الأضواء، أو التجاهل والتهميش»، وغياب التقدير في المناسبات المهمة، وعدم الجدوى من النشر، وغياب الدراسات والمتابعة والنقد الجاد، وضعف الاهتمام بالإبداع في ظل التركيز على أمور أخرى، لافتاً إلى أن وسائل التواصل الاجتماعي خطفت كثيراً من أضواء النشر والطباعة، وأضاف وربما بسبب دور النشر التي تصر على أخذ مبالغ مالية يرى المبدع عدم مشروعيتها وأن التزاماته وأسرته أولى بها، وربما بسبب غياب الجهات الرسمية التي تتكفل بدعم المبدع مادياً وتولي موضوع الطباعة والنشر والتسويق.
وزاد، ربما وجد الكاتب أو المبدع أنه لم يعد لديه ما يقدمه ففضل التوقف والاهتمام بأمور أخرى، ولم يستبعد الظروف الخاصة والحياتية التي تضغط على المبدع ولا يستطيع حلها أو التغلب عليها.
فيما عد الشاعر عبدالعزيز الشريف عوامل عدة تسهم في غياب المبدع، وتجعله في عزلة اختيارية أو بأثر رجعي من المرحلة التي يعيش فيها. ويرى أن الغياب حالة يمر بها معظم من يملك جينات الإبداع الحقيقي، إلى جانب مؤثرات أخرى منها التقدم في العمر، والمرض، مؤكداً أن للإهمال الذي يتعرض له البعض سواء على الجانب الشخصي أو الجمعي أثره بحكم الإلغائية بين الأجيال بمعنى أن كل جيل يلتفت إلى مرحلته ونتاج مبدعيها ودعمها عبر منافذ التواصل الاجتماعي، وتساءل: كيف نجعل من هذا المبدع حاضراً ومنتجاً ومتواصلاً متفاعلاً مع المرحلة الآنية، وكيف نقتحم عزلته من خلال من خلال برامج ثقافية رسمية تتابع حاله وحال نتاجه.
وقال، أقدّم تحية لكل مبدع سار في طريق العزلة الاختيارية إكراماً لذاته ومنجزه وتاريخه، بصرف النظر عن هاجس النقد، كون المبدع الحقيقي يكتب للإبداع والتجلي فقط ومن يكتب وفوق رأسه هاجس الناقد كاتب فاشل.
ولا يرى القاص هاني الحجي الغياب ظاهرة بل حالات فردية، تعود لظروف يمر بها الأديب أو الكاتب، وربما تكون قاسية وتجعله يتوقف لمراجعة الذات، والتأمل في مسيرته الأدبية والاجتماعية. وأوضح أنه من خلال تتبع بعض الكتّاب الذين انتقلوا من القرى الريفية إلى المدن الكبيرة، والذين اغتربوا عن أوطانهم وهاجروا للعمل خارجها في الشرق والغرب ثم عادوا بعد سن (التقاعد) لمسقط رؤوسهم وأماكن طفولتهم، ربما يتخذون قراراً بالانزواء في قراهم وأماكن مولدهم، بحكم حالة سيكلوجية للكاتب الذي أنهك روحه الركض في حياة المدن الكبرى أو الغربة خارج وطنه، وينتظر فرصة العودة للرحم الذي بدأ منه ليستقر بعد أن أجهدته التنقلات، ورجّح أن تكون لحظة لاستعادة تفاصيل الطفولة الضائعة، والحنين للأرض التي غادرها، على أمل انتاج عمل يغير مسيرة الكاتب الأدبية عكسياً من الكتابة عن الهجرة إلى المدينة للكتابة عن العودة إلى القرية، ويكتب ذاته التي ربما يجدها في فترة الاعتزال والابتعاد عن المشهد ليتأقلم مع واقعه الجديد في عودته لخطواته الطفولية الأولى.
أحمد بوقري.. ظاهرة يكتنفها الغموض وتحيطها الشكوك
يذهب الناقد أحمد بوقري إلى أن غياب المبدعين عن المشهد له أسبابه المتعددة؛ بعضها ما يتصل بالأديب نفسه، وبعضها له علاقة موضوعية بالمناخ الأدبي العام، والموقف النفسي والفكري منه. وعدها ظاهرة يكتنفها الغموض، وتحيط بها كثيراً من الشكوك والأقاويل!.
وقال بوقري: «ربما أحاول هنا تقليب وجوه هذه الأسباب ومعاينة جذورها..! لماذا ينسحب الأديب من الحضور الأدبي وهو في ألقه الإبداعي؟ والإجابة لها احتمالاتها ولها مظانها». فهو إما أنه قدم كل ما لديه واكتفى بما قدم فقرر الاعتزال حفاظاً على اسمه وتاريخه وهذا ما رأيناه في موقف الأديب المرموق الراحل يحيى حقي الذي توقف عن الإنتاج الإبداعي قبل فترة ليست بالقليلة قبل رحيله، ومواقف كهذه يشكر عليها المبدع. وعالمياً كما عرفنا عن اعتزال القاص المكسيكي (خوان رولفو) الذي لم يكتب سوى عملين إبداعيين فقط. وهناك من نضبت ينابيع الإنتاج الأدبي قبل الآوان رغم أن له إنتاج متميز في فترة قصيرة فلم يستطيع الاستمرار فاختفى! وهذا نرفع له القبعة ولا نغبطه في نفس الوقت.
ويؤكد أن من لم يمتلك الموهبة الحقيقة وكان طارئاً على الأدب وكتب كتابات لم تترك له بصمة فلا نستغرب منه ترك المشهد دون أسف عليه.
ولم يستثن المناخ النقدي الشللي أو السلبي الذي لا يجد الأديب المبدع فيه صدى لإبداعاته، ويشعر بالتهميش ما يخلق حالة من الإحباط والاستياء خصوصاً حين يجد من هم أقل منه قيمة إبداعية له الحظوة والاهتمام.
ويرى أن الانسحاب ينطوي على بعد وموقف ذاتي هش، كون الذي كتب وأبدع واستعجل الالتفات إليه بالرغم من عدم امتلاكه لقضية أدبية أو فنية متميزة فلاحظ أن المردود النفعي دون مستوى طموحاته فاتجه لأعمال أخرى.
وعد الانسحاب المفاجئ ذا أبعاد فلسفية وأكثر جذرية، في حال تيقن المبدع أن لاجدوى من الكتابة ولم تحقق كتاباته المفاعيل المهمة لتطوير الحالة الإبداعية من حوله، ما أحدث فجوة بين مايفكر فيه ويطمح إليه، وبين ما هو عليه الواقع الأدبي والفكري، مضيفاً أن البعض ينسحب تحت ضغط اجتماعي، أو تأثير المرض والعجز الذاتي، وهكذا تعددت الأسباب والغياب/ الموت واحدُ.