برحيل الشاعر العربي كريم العراقي؛ يختل وزنٌ، وتحزن قافية، ويُنشز لحنٌ؛ وتذوب كمداً قصائد لطالما كانت في كامل بهجتها على لسان شاعرها؛ وإن لم يولد العراقي مغنيّاً، إلا أنه أثرى العاطفة، وبلسم جراح الأيام بكلمات لا تشبهها الكلمات.
ليس كل شعرٍ صالحاً للغناء، إلا أن صاحب «لا تشكُ للناس جرحاً أنت صاحبه» عزز حضور اللغة البيضاء في الأغنية العربية، برشاقة اللفظ المُشتق من «المابين»، موظفاً المثل والحكمة للارتقاء بالذائقة؛ كونه من مدرسة تؤمن برسالية الفنون، فعمل على تهذيب الوجدان بالجُملة المؤنسنة، ووظف الشجن العراقي ضارب الجذور في الذاكرة الإنسانية ليبلغ كل فؤاد اصطلى بنيران الوجد، وضبط ذائقة المطربين على إيقاع بحوره.
لا يموت الشاعر بالرحيل الحسيّ من الدنيا، طالما قوافيه تجري أنهاراً على ألسنة الناس، فكم في عالمنا اليوم من يردد مع كريم العراقي، وسعدون جابر «يا أمي يا أم الوفا يا طيب من الجنة،، يا خيمة من طيب ووفا جمعتنا بالحب كلنا، تعلمت الصبر منك يايمة،، الهوى إنتِ الهوى ومحتاج أشمه» فمن كانت «حلوة اللبن» على قيد الحياة؛ سيعتني أكثر بست الحبايب؛ ومن انتقلت لجوار ربها، سيدمع قلبه قبل عينه، وهذا هو الفنّ الراقي المرتقي بآدميتنا.
وبحسب الفنان القدير سعدون جابر؛ كان ذاهباً مساء يوم برفقة الشاعر كريم العراقي لحضور مباراة في ملعب الشعب، وفي الطريق لفت انتباهه تمثال من عمل النحات محمد غنى حكمت، لسيدة عراقية ترتدي عباءتها، وتضم بيدها اليسرى، طفلها الرضيع على صدرها، وملتفتة على طفلها الآخر تجره بيدها، والتمثال ينقل بحرفيّة مشاعر الأم المنشغلة بحماية طفليها من تيار رياح عاصفة، فطارت عباءتها، فنظر سعدون إلى كريم فإذا هو يبكي، ولما سأله عن السبب أجابه بأنه لم ير والدته منذ ستة شهور، فرد عليه سعدون «أنت قضيتك تهون أنت عندك والدة؛ بس أنا ما عندي والدة»، وتابعا سيرهما إلى الملعب، في أثناء المباراة انشغل سعدون بمتابعتها بينما كان كريم يكتب، وبعد انتهاء المباراة ذهب سعدون إلى السيارة وقبل أن يدير المفتاح أعطاه (كريم) القصيدة وقال له: قف واقرأ وكانت كلمات أغنية «يا أمي يا أم الوفا».
اسمه كريم عودة، ويلقب بالعراقي، لشدة تعلقه بوطنه؛ من مواليد الخمسينيات، في عاصمة الرشيد دار السلام، بغداد، وعمل مدرساً في مدارسها لأعوام، بدأت محاولاته الشعرية مبكراً، فكتب بالفصحى والعامية، ونشر الشعر في المجلات والإذاعة والتلفزيون، وللراحل العراقي أرشيف زاخر بالعطاء منذ سبعينيات القرن الماضي، ومن أبرز الأعمال التي كتبها «جنة جنة»، وغنّاها رضا الخياط، و«تهانينا يا أيام» لصلاح عبدالغفور، و«دار الزمان ودارة» لسيتا هاكوبيان، و«عمي يبو مركب» لفؤاد سالم، و«وي هلة» لأنوار عبدالوهاب، و«عرفت روحي أنا» لرياض أحمد، و«هلة بيك» لسعدون جابر وهي أغنية رياضية.
وقدم كلمات لأربع أغانٍ لسعدون جابر من ألحان الفنان بليغ حمدي عام 1981، وثلاث أغانٍ لحسين نعمة «تحياتي، شكد صار أعرفك، هنا يمن كتلي اعتمد»، وأغنية «خيرتك حبيبي» لصلاح عبدالغفور، وكذلك أغنية «الشمس شمسي والعراق عراقي» ألحان وأداء جعفر الخفاف.
واستمرت رحلة «كريم العراقي» مع صديقه ورفيق دربه الفنان كاظم الساهر من عام 1987، إذ بدأت العلاقة في الجيش وكانت أول أغنية في مسلسل «شجاها الناس» ومن ألحان الخفاف، و«ناس وناس»، و«معلم على الصدمات قلبي»، و«افرح ولا تحرموني منه»، وكتب للساهر أكثر من 70 أغنية.
وكانت الانطلاقة الحقيقية «للعراقي» مع الساهر في مصر، وشكّلا ثنائياً لافتاً باللغة الشعرية التي جاورت اللهجة العراقية، بالنص العربي الفصيح، وتُرجِمَت أغنية كريم «تذكر» التي غناها كاظم الساهر، لنحو 18 لغة أجنبية، ونال عليها العراقي تكريمًا من منظمة الأمم المتحدة لرعاية الطفولة والأمومة (يونيسيف).
وتعاون كريم العراقي مع مطربين ومغنين عرب، منهم ماجد المهندس، وعادل مختار، ورضا العبدالله، وأصالة، وصابر الرباعي، ونشر ألبومات شعرية صوتية، وروايات للأطفال، ومسرحيات، وقصصًا وسيناريوهات وحوارات لأعمال سينمائية، وصولًا إلى كتاب «هنا بغداد» في 2009.
وأكد مستشار رئيس الوزراء العراقي للشؤون الثقافية عارف الساعدي، أنه «برحيل الشاعر كريم العراقي نكون خسرنا صوتًا شعرياً ومنطقة جمال أنعشت الأجيال على مدى ثلاثة عقود»، موضحاً أن «نصوص العراقي أسهمت في توسيع مساحة الجمال وتلقي النص الغنائي ذي المحتوى الجمالي العالي الجودة»، وعدّ تجربة كريم العراقي تجربة فريدة في منطقة إبداعية سهلة جدًا وصعبة في الوقت نفسه؛ كون من يسمع أو يقرأ شعر كريم يظن أول الأمر أنه شعر سهل وبسيط لا تكلف فيه، إلا أنه في الواقع يخفي قضايا إنسانية ويعالج حالات مجتمعية ووجدانية معالجة شعرية عالية الجودة.
ويراها الساعدي ميزة لكريم العراقي في أن يكون سهلا وصعبا في الوقت نفسه، وقال: «أنا أتحدث عن الشعر الشعبي الغنائي وليس عن نصوصه الفصيحة التي ربما نختلف بعض الشيء معها، إلا أنه في النص الغنائي الشعبي تجد السهولة لأنه يستخدم اللغة البيضاء التي يفهمها الجميع، بل يتعدى إلى فهمها من كل عربي دون تكلف، وهذه ميزة ثانية تضاف لكريم في أنه يبتعد في نصوصه عن الكلمات الوعرة والصعبة، ودائمًا نصه سهل وعميق، وهذا الأمر نابع من شخصية كريم العراقي نفسه، إذ يتمتع بشخصية سهلة لا عقد فيها أو تكلف».
ولا شك أن الشعر العربي نشأ نشأة شفوية، وبدأ نشيداً وصل إلى الآذان عن طريق السماع، ويؤكد الشاعر العربي أدونيس الصلة بين الشعر العربي والغنائي.. بقوله: «كان الإنشاد والذاكرة بمثابة الكتاب الذي ينشر الشعر الجاهلي، من جهة، ويحفظه من جهة ثانية». ونشيد في اللغة، تعني الصوت، ورفع الصوت، والشعر نفسه الذي يتناشده الناس.. وأنشد الشاعر قصيدَته أي غنّاها على البحر والقافية بما يؤجج عاطفة سامعيه وجمهوره، وكانت العرب ترى إنشاد الشعر موهبة إضافية، تضاف لموهبة القصيدة، والإنشاد عند أدونيس صورة من صور الغناء، وحقاً، كل ما يُطربُ يجبرنا على الإصغاء إليه، ولروح كريم العراقي النعيم المقيم والخلود بما أذكاه فينا من ذائقة راقية في زمن يختلط فيه التناغم بالنشاز.