هي قوارب لا تتوقف عن العمل بداية، لأنّ مجموع اليائسين البائسين في سورية ولبنان يتجاوز عددهم الملايين، ولأنّ «مافيا» الهجرة غير الشرعية -أيضاً- بالمئات، وأرباحها بملايين الدولارت، فلا أحد قادراً على طمأنة البائسين، ولا أحد قادراً على وقف جشع المجرمين.
لاشك أن الأزمة الاقتصادية الخانقة التي يعيشها لبنان تدفع الكثير من سكانه إلى الإقدام على رحلة لجوء خطرة عبر البحر، غالباً ما تنتهي بكارثة يروح ضحيتها العشرات في كل مرة، ورغم أن أعداد القتلى والغرقى في ازدياد، فإن تجار الموت لا يتوقفون، ومن يقفون خلفهم لا يتورعون، ويبقى السؤال: من يتصدى لهؤلاء المجرمين؟ ومتى تتوقف ظاهرة «الانتحار غرقاً» بحثاً عن ملاذ آمن، وهرباً من واقع مُر دفع عديد اللبنانيين إلى الفرار من الجحيم إلى الموت؟
هنا «عكاظ» تكشف المستور، وتفضح مافيا «تجار تهريب البشر» عبر هذا التحقيق الاستقصائي.
لماذا أبقى هنا، لا يوجد شيء يجعلني أبقى وأتمسك بالبقاء في هذا البلد، إذا سنحت لي الفرصة مرة أخرى أكرّرها، لا يوجد أي شيء أغلى من الذي خسرناه، حلمي هو أن أخرج من هذا البلد؛ كي نعمل من أجل تحقيق أحلامنا. بهذه الكلمات يختصر الشاب اللبناني إبراهيم دندشي (18عاماً) حكاية قوارب الموت وقصص ركابها.
هو اليأس الذي يدفع عائلاتٍ وشباناً إلى ركوب البحر نحو المجهول، متجاهلين خطر الموت والغرق لهم ولأطفالهم الصغار. لم يعد في لبنان ما يدعو الناس المساكين للتمسّك بالبقاء، «الموت أفضل من الحياة هنا» هذا ما يقوله إبراهيم، والدمعة تسرح على خده، وهو الذي فقد في مركب الموت أمه وشقيقه الصغير وعشرة من أقاربه، وعندما تسأله هل زارتك والدتك في المنام بعد حادثة الغرق. يجيب بقوله: «لم تزرني، هي تحبني ولا تريد أن أحزن أكثر مما حزنت».
بداية كان إبراهيم يرفض الحديث إلينا قائلاً: «تكلمنا كثيراً، فما نفع الكلام، هل سيعيد من مات أو سيريحنا من كوابيسنا. الكلام في هذا البلد لا ينفع، ما أفكر به فقط هو الهروب من الجحيم. ألم يقل رئيس جمهوريتنا إننا ذاهبون إلى جهنّم أنا أريد أن أهرب من هذا الجحيم».
محمد ضناوي، هو ابن منطقة (أبي سمراء) المعروفة بفقر حال سكانها وقلّة حيلة شبابها، فقد زوجته الحامل وطفلته ابنة السنوات الأربع. يروي قصة الهرب عبر البحر فيقول: قررنا الهجرة بطريقة غير شرعية عبر البحر بسبب الأوضاع الاقتصادية الصعبة، كانت زوجتي حاملاً بطفل لديه مشكلة صحية وعلاجه في لبنان يكلفنا مبالغ كبيرة جداً، كنا نحلم بأن تكون لدينا رعاية صحية مثلما هو الأمر في الدول التي تحترم نفسها وشعبها.
ويضيف بغُصة في حلقه: بادرنا بالسفر على المركب عندما شاهدنا أعداد الذين يهاجرون وتصل رحلاتهم بسلام. لماذا المركب غير الشرعي؟ لأننا لا نستطيع الحصول على جواز سفر، دفعت 8000 دولار لسمسار الرحلة، بعت سيارتي وأثاث منزلي لتسديد المبلغ، وكل ما في ذهننا أن نعيش حياة كريمة.
انطلقنا بالرحلة في شهر رمضان بعد الإفطار في 23 أبريل 2022 وحدث ما حدث. الرجال وكبار السن تمكنّوا من النجاة لوجودهم على ظهر المركب، فيما النساء والأطفال كانوا في داخل القمرة لم يتمكنوا من الخروج فغرقوا مع المركب.
يمسح الضناوي دموعه، ويكمل الحديث قائلاً: أوضاعنا النفسية صعبة جداً، ولدي كامل الاستعداد أن أكرر التجربة المريرة مرّة ثانية، لأننا في هذا البلد ليس لدينا أيّ مستقبل، حتى لو أسسنا حياة جديدة لا مستقبل لنا.
ثم يستعيد آخر لحظات الغرق والدموع تملأ عينيه: لا أنسى وجه ابنتي البالغة من العمر 4 سنوات في آخر دقيقة من الحادثة؛ كانت تشير إليّ بيدها تودعني، كنت جالساً في الخارج وهي في الداخل مع والدتها. كنت الأب العاجز عن إنقاذها وحمايتها. هي تستحق الحياة ولكن الحياة كما تبدو لا تستحقها. اشتقت إليها كثيراً وبعد غرقها أشعر بالإفلاس النفسي الكامل.. الحياة بشعة من دونها.
أموات يعودون إلى الحياة
الطفلان غازي (9 سنوات) ومحمد قدور ( 12 سنة)، يعيشان اليوم مع والدهما المفجوع الذي لم يستطع العودة إلى عمله بعد الحادثة، المأساة أتت على أعصابه وذاكرته وصحته؛ لقد فقد زوجته أم غازي ومحمد ومعها ابنه الصغير. طفلان عند الحديث معهما تعتقد أنك تحاور أمواتاً عادوا إلى الحياة أو أحياء ينتظرون الموت. ماذا يعني أن يشاهد طفلان أمهما وشقيقهما الصغير يغرقان أمام أعينهم؟ يسمعان صراخهما ومناجاتهما، ينظران إلى والدهم العاجز عن فعل شيء، ينظران إلى البحر فقط؛ البحر الذي كانا يحبانه في رحلات العائلة، وها هو اليوم يأخذ والدتهما وشقيقهما.
الطفل غازي ينظر إلينا بعيون تائهة حائرة وكأنه لا يدري ماذا حصل، ثم يحكي قائلا: «غادرنا المنزل. أخبرنا والدي أننا ذاهبون للعيش في أوروبا، حيث الأمان لأننا في لبنان لا يوجد أي شيء. والدي رهن منزلنا وباع أثاث المنزل كي يستطيع أن يؤمن المال للسفر. كان حلمي أن أدرس الهندسة لأساعد والدي، لكن الحلم سقط عندما سقطت في البحر. سبحت كثيراً حتى أشفق عليّ بعض الركاب من الرجال الكبار فانتشلوني من الماء. آخر وجه رأيته كان وجه أمي وهي تقول لي: «انتبه على حالك»، وبعدها غرقت مع شقيقي. صوتها وكلماتها لا يغادران مخيلتي وأسمعها عندما أكون في الغرفة وحيداً. عندما أستيقظ صباح كل يوم أسمع صوت أمي تخاطبني فأقول لها: «بحبك كتير».
أما شقيقه الأكبر محمد فتحدث لنا وهو يبكي: أنا مشتاق لأخي وأمي. وأذكر جيداً ما قاله أخي لأمي: «البحر حلو». يصمت محمد قليلاً ثم ينظر إلى البحر قائلاً: «أمي وأخي هناك في عرض البحر. كلما أمر على الشاطئ ألوح لهما بيدي وأقول لهما «اشتقت إليكما كثيراً».
حكاية القارب «غريست غرافت 74»
حكاية هذا القارب تشبه حكاية كل قوارب الموت التي تنطلق بشكل شبه يوميّ من الشواطئ اللبنانية والسورية باتجاه المجهول. فمن على شاطئ طرابلس (عاصمة لبنان الشمالي) أكثر المدن فقراً على حوض البحر الأبيض المتوسط، بحسب التقارير الدولية الرسمية الصادرة عن الأمم المتحدة، صعد ما يقرب من 75 شخصاً من الرجال والنساء والأطفال، دفعوا كل ما يملكون، استدانوا ورهنوا وباعوا كل ذكرياتهم من أجل عبور البحر إلى وطن آخر. وطن يجدون فيه الماء والكهرباء ورغيف الخبز. وثّقوا رحلتهم من المنزل إلى القارب بشريط فيديو وهم داخل أحد الباصات.
النساء والأطفال يضحكون يحدثون الكاميرا قائلين: «نحن راحلون إلى هولندا وألمانيا» يتغامزون وكأنّها القهقهات والضحكات الأخيرة. يعتقدون أنهم سيتخلصون من كل الآلام التي يعيشونها في طرابلس وأبي سمرا وعكار والمنية والضنية، لن تنقطع الكهرباء عنهم مجدداً، لن يقفوا في الطابور لشراء الخبز، لن يحملوا عبوات المياه كي يشربوا، والأهم الأهم، أنهم سيجدون طعاماً عند المساء.
بدأت الرحلة بعد مغيب الشمس، ثلاثة حافلات توجهت من ثلاث نقاط مختلفة في شمال لبنان لكن الوجهة واحدة، وهي ميناء طرابلس. خرجوا من الحافلات فرحين صعدوا إلى المركب الواحد تلو الآخر، هي الخطوات الأخيرة لهم على يابسة لا يحملون منها سوى الذكريات البشعة. نصف ساعة وأدار القبطان محرّك المركب. سمعوا صوته صارخاً: «سننطلق.. اسكتوا جميعاً كي نغادر بهدوء». هي مسافة ساعة بين الشاطئ والمياه الإقليمية.
القصة الكاملة.. والقتل المتعمد
وهنا يروي «دندشي» الذي خسر 14 شخصاً من عائلته في القارب، الحكاية الكاملة: «مركبنا الذي يحمل اسم «غريست غرافت 74» مزوّد بمحركين وفيتاس عدد 2، سرعته 35 إلى 37 عقدة في الساعة. ما حصل معنا لا يمكن تصديقه. عندما اقتربنا من المياه الإقليمية ظهر بوجهنا فجأة طرّاد عسكري، طلب منّا العودة إلى الشاطئ. توجهت لهم بالحديث صارخاً: «يوجد معنا أطفال ونساء، دعونا نخرج من هذا البلد بسلام»، فرد عليه أحد العسكريين صارخاً متهكماً: «والله لقبركن» اللافت أنه في الوقت نفسه كان هناك عدد كبير من الزوارق التي غادرت وعلى متنها ما يقارب 200 شخص. ابتعد الطرّاد قليلاً ثم عاد مسرّعاً وقام بالارتطام بنا.
وعندما نسأله كيف عبرت بقية الزوارق فيما زورقكم غرق يقول غاضباً: «هذا السؤال جوابه عند المسؤولين. بعد 10 دقائق من مغادرتنا غادر مركب آخر. هناك مراكب تدفع المال من أجل العبور. نحن لم ندفع، بعت منزلي وسيارتي واستدنت مالاً لتغطية التكلفة، لماذا سندفع حتى يُسمح لنا بالمغادرة»..؟!.
رواية أبو إبراهيم يؤكّد مصداقيتها الطفل محمد قدور فيقول: «بداية جاء طرّاد صغير دار حول مركبنا وارتطم به، لكنه لم يستطع أن يغرقه وبعد دقائق وصل طرّاد حجمه أكبر ضربنا أول ضربة وكرّر عملية الصدم لمقدمة المركب حتى استطاع إغراقنا«». ويكمل إبراهيم حكاية الغرق: حاولوا إيقافنا وكانوا ينتظروننا لضربنا، وبعد الضرب انكسر (فيبر المركب) وسقط على الفور إلى قاع البحر. لا أحد يستطيع أن ينقذ الغارقين. مركب خفر السواحل أو الطرّاد وحده يصنع الأمواج ويزيد الأمور سوءاً. أنا كنت على سطح الماء وسبحت، المركب لا توجد به أيّ مشكلة تقنية ويستطيع حمل 120 شخصاً ولكن الضربة سرّعت الغرق.
رفضنا دفع الرشاوى.. فأغرقونا
ويكشف أبو إبراهيم أنّ المركب الذي غرق كان موجوداً بمرفأ القلمون (مدخل طرابلس) وكل الأجهزة الأمنية تعلم بوجوده، هم يعلمون بكل شيء. أوقفوا أحد المهربين في منطقة العبدة الحدودية فاعترف قائلاً: «أنا أغلقت المرفأ وأطفأت الرادارات بـ380 ألف دولار» والسؤال هنا: لماذا لم يسحبوا العناصر والضباط، لماذا لم يتوسعوا بالتحقيق؟.
واختتم حديثه معنا بقوله: ما استنتجته من الحادثة أنّ الذي حصل معنا سببه رفضنا دفع رشاوى، كان بإمكانهم أن يعيدونا إلى الشاطئ دون إغراقنا لكنهم أرادوا معاقبتنا بالغرق. أحد الناجين رفض كشف هويته خوفاً أن يُطرد من العمل، قال: «ما حصل معنا جريمة قتل موصوفة، للأسف عائلتي قُتلت مرتين؛ الأولى عندما أغرق المركب، والثانية عندما تواطأ السياسيون مع القتلة لإخفاء الجريمة، لقد شعرت بعد الحادثة أنّ كل من في هذا البلد يريد قتلنا، يريد إغراقنا.. كلهم مجرمون وقتلة».
الجيش اللبناني: الحمول الزائدة سبب الحادثة
وكان قائد القوات البحرية في الجيش اللبناني العقيد الركن هيثم ضناوي، عزا، في مؤتمر صحفي عقده في القاعدة الحربية بعد الحادثة، سبب غرق المركب قبالة طرابلس إلى الحمل الزائد، وقال: لولا وجود عناصر الجيش بالقرب منه لكان عدد الضحايا أكبر. وأضاف أنّ المركب قديم العهد ومصنوع عام 1974، وهو صغير يبلغ طوله عشرة أمتار وعرضه 3 أمتار والحمل المسموح له 10 أشخاص فقط، ولا وجود لوسائل الأمان فيه. ولفت إلى أنّ المركب كان محملاً بما يزيد على 15 ضعفاً من حمولته المسموحة، وعملنا على إيقافه وإقناع قائده بأنّه عرضة للغرق، مضيفاً أن قائد المركب حاول الهرب فارتطم بمركب القوات البحرية التابعة للجيش اللبناني، نافياً استعمال السلاح من قبل عناصر القوات اللبنانبة.
ما يقارب الـ90 شخصاً أكثرهم من النساء والأطفال قضوا غرقاً في هذه المأساة، أُحضرت(غواصة spises 6) من إسبانيا وتبرّع بتكاليفها مغتربون لبنانيون في أستراليا بعد انتظار طال عدة أشهر. عملية البحث عن رفات الضحايا لم تصل إلى أيّ نتيجة والتبرير كان الجثث متحلّلة لا يمكن إخراجها سالمة من المياه. نتيجة أغضبت اهالي الضحايا والناجين لكنها كانت ضرورية لإغلاق الملف.
إحصاءات وأرقام
وبحسب وزير الإعلام في حكومة تصريف الأعمال زياد مكاري، فقد شهدت سواحل الشمال اللبناني ما لا يقل عن 155 محاولة هجرة غير شرعية خلال الربع الثالث من عام 2022، شارك فيها 4637 شخصاً، وأدت الى مقتل 214 شخصاَ على الأقل، وفقدان 225 آخرين.
فيما أعلنت مفوضية الأمم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين، أن نحو 3460 شخصاً غادروا لبنان أو حاولوا مغادرته عن طريق البحر منذ بداية عام 2022؛ أي ما يعادل أكثر من مثلي العدد عام 2021. أما المحاولات التي تم كشفها وتوقيفها فهي عديدة؛ منها 25 مركباً في عام 2021 كانت تقلّ نحو 750 مهاجراً، و4 مراكب في عام 2020 كانت تقلّ 126 شخصاً بحسب الإحصاءات الدولية للمعلومات.
ريفي: تقصير أمني.. والمنظومة السياسية مسؤولة
كشف وزير العدل السابق والنائب الحالي عن مدينة طرابلس أشرف ريفي، أن مراكب الموت يقف خلفها تجار البشر، نافياً وجود قوى سياسية على صلة بالموضوع.
وحول الاتهامات التي وجهت للجيش بتسببه في إغراق المركب قال: لا أرى الأمر هكذا، نحن أحضرنا الغواصة لمحاولة انتشال المركب والجثث العالقة فيه، ولكننا لم نستطع فعل أي شيء وهناك استحالة بسبب وجوده على عمق 450 متراً.
وقال ريفي: إن التحقيقات وصلت إلى خواتيمها، لا أستطيع أن أؤكد أو أنفي الروايات التي رواها الناجون من المركب، لكن هناك أكثر من 250 ضحية غرقت نتيجة الوضع المأساوي في البلد، وهو ما دفع الناس للانتحار عبر سفرها بالمراكب غير الشرعية؛ ظناً منهم أنهم ينقذون حياة أولادهم.
ورداً على سؤال عن من يتحمل مسؤولية غرق المركب قال: الغرق يكون لأسباب تقنية كعطل بالمركب أو من القبطان، وكذلك الحمولة الزائدة، فيما وسائل وقواعد السلامة لا تكون متوفرة، فمثلاً المركب الذي يتسع لـ9 أسخاص نرى أنه يحمل 100 شخص، وستر النجاة لا تكون متوفرة لكل الركاب.
واتهم ريفي الأجهزة الأمنية بأنها مقصّرة، لافتاً إلى أن نسبة الضبط 10% فقط، فإذا تم ضبط مركب واحد هذا يعني أن هناك 9 مراكب أخرى غادرت البحر مثل تجارة المخدرات تماماً.
واعتبر أن علاج هذه الظاهرة لا يكون بالقانون ولا بالجيش إنما بتأمين حياة كريمة وطبابة ومدارس وسكن وفرص عمل حتى لا يفكروا في السفر بهذه الطريقة. وحمّل ريفي المنظومة السياسية مسؤولية هذه الظاهرة، إذ إنها أوصلت الناس لمرحلة من الإحباط واليأس.
ماذا يقول علم الاجتماع؟
عزا أستاذ علم الاجتماع الدكتور رياض عبيد، سبب ازدياد ظاهرة الهجرة غير الشرعية، وتحديداً السفر عبر قوارب الموت، إلى الفساد المستشري في الدولة اللبنانية، مؤكداً أنه لا توجد حلول لاستئصال الفساد وما يتبعه من مشكلات وكوارث. ولفت إلى أن أبرز نتائج الفساد هو الفقر؛ الذي -بدوره- يولّد ظاهرة قوارب الموت لأنه ما من أحد يعالج هذه الظاهرة.
واعتبر ألَّا فرق بين من خاض تجربة قوارب الموت ومن لم يخضها؛ فالحياة لم تعد تحتمل في لبنان عامة وفي طرابلس خاصة، هكذا يفكرون أثناء اتخاذهم قرار الهجرة. وكذلك هم يتوقعون أو يتخيلون أنهم سينتقلون إلى مكان أفضل يتوفر فيه الحد الأدنى من مقومات العيش الكريم، على الرغم من معرفتهم أنهم قد يخسرون حياتهم، لكن في ذات الوقت تبقى لديهم حسابات الانتصار بالوصول إلى الدولة التي يحلمون بها.
مخبر أمني يقرر البوح
من يقف خلف هذه المافيا وكيف تعمل؟
(رائد. ج) شاب لبناني (25 عاما) يعمل مخبراً لعدد من الأجهزة الأمنية، وتحديداً في ما يتعلق بالمراكب التي تغادر الشاطئ الشمالي من لبنان كما عرّفنا بنفسه. تواصل معنا بعدما عَلِمَ عن نيتنا بإنجاز تحقيق عن قوارب الموت، وبعد أخذ ورد وتردّد كبير منه ثم اشتراطه إخفاء وجهه وهويته الحقيقية، قرّر كشف كل شيء على ذمته وبشهادة عدد من الناجين، فقال: أعمل مع الأجهزة الأمنية منذ 15 سنة، أقدّم لهم معلومات عن المطلوبين الهاربين بالمراكب في البحر، أولاً أقوم بتبليغ الأجهزة الأمنية وأخبرهم عن موعد انطلاق المركب ومن أين سينطلق بالتفصيل.
وعن رحلة القارب (غريست غرافت 74)، قال قمت بالإخبار عنه مبكراً وقلت للأجهزة الأمنية بكل أنواعها إنه بعد ساعتين أو 3 ساعات المركب سينطلق، فردّ علي الضابط المسؤول: انتظر مكالمتي لأخبرك كيف وماذا ستفعل.
وأضاف: «أجابني الضابط اذهب وارصد لي التفاصيل، وعند وصولي تفاجأت بوجود دورية أمنية في الساحة، فتلقيت اتصالاً جديداً من الضابط المسؤول طلب مني أن أذهب إلى المركز فذهبت وبقيت نحو الساعتين، والمفاجأة كانت أنه تمّ تحويلي إلى ثكنة القبة (منطقة شعبية في طرابلس) حيث تمّ التحقيق معي واستجوابي لمدة ساعتين، وتمّ ضربي وسؤالي عن علاقتي بهذا المركب فأجبته «أنا أنقذ هذه الأرواح المعرّضة للموت في البحر، لأنّ الطقس ماطر وعاصف وغير آمن للخروج بهذه الرحلة».
يصمت المخبر رائد ثم يقول: هذه الرحلات تحرّكها مافيات من مدينة طرطوس السورية وصولاً إلى مدينة طرابلس اللبنانية، وهناك بعض المسؤولين الرسميين في البلدين يعرفون بتفاصيلها كاملة، مافيا مراكب الموت تتألف من ثلاثة مستويات هي: أصحاب المراكب، عناصر أمنية متورّطة تغطي الرحلات والهجرة غير الشرعية، محامون وشخصيات سياسية يؤمِّنون الغطاء القضائي والأمني لأصحاب المراكب.
خلال إنجاز هذا التحقيق، أخبرنا المخبر رائد أنّ في هذا الوقت هناك ثلاثة مراكب يتم تجهيزها في مدينة طرطوس السورية، ستحمل على متنها أكثر من 250 شخصاً من الجنسيتين السورية واللبنانية، ستمرّ في طرابلس لنقل لبنانيين ثم ستغادر بعد ذلك.