الوحدة.. باب النجاة والهلاك
تجلّت الوحدة في عدد يسير من قصائد الحازمي كبابٍ يدفعه نحو الاكتشاف والتعرّف إلى الذات وتحويل الموجودات من أدوات يعتلجها التشيؤ إلى كيانات تحتاج إلى تأويل وتعريف، ففي قصيدته الأولى من المجموعة (الإقامة في الصدى) ينطلق الشاعر من الحزن والوحدة والانكسار وصولًا إلى أولى عتبات الذات ما يضعنا أمام نوع من التسامي والترفّع عن الشعور البشريّ المادّي المتكرّر «وما سألتُ عن الذين تقاسموا حلمي الشريد، عن الذين تهاتفوا في نبض أغنيتي الجريحة» (ص.9) استخدام صيغة النفي (ما سألتُ) تتناغم وتنسجم مع سلوك الشاعر تجاه الحياة المعبّر عنها بشكل مباشر، «أصغي إلى نغم الحياة…» (ص.9)، وتنمّ عن الاستعداد والتمهيد النفسيين للذات لاتخاذ خطوة الانسلاخ عن المحيط والمجموع والتعمّق في دهاليز الأنا.. وقد ظهر هذا التخلّي والرغبة في البحث في قطع آخر من القصيدة حين حافظ الحازمي بشكل لا واعٍ على قيمة الانتماء «من الأسلاف في لغي ولدتُ» (ص.11) ليعاجل هذه الصيغة الخبريّة بصيغة اعتراضيّة تكشف ميله نحو التفرّد والبناء الذاتيّ ورسم الهويّة الخاصّة «لكنّي لم أنحنِ يومًا/ لطيف غمامة عبرتْ» (ص.11) تأتي الغمامة كرمز بعيد كلّ البعد من دلالته الكلاسيكيّة (الحزن/الأوقات الصعبة/ الهمّ…)، لتشير إلى التقليد والعرف والبديهي والمتّبع وهو ما يخدم غاية الشاعر في البحث عن ذاته.
أتت الوحدة في هذه القصيدة كأنموذج لباب يطرقه الحازمي بحثًا عن النجاة، لكن نموذجا شعريا آخر قد بيّن كيف صارت الوحدة نقمة أو موضع هلاك للشاعر، ففي قصيدة (جدار الريح) يكشف العامل النفسي عن مدى ارتداد الوحدة على الشاعر بشكل بشكل سلبي «ناديتُ نومي بأعلى ما استطعت/ ولم يجب عيني في قلق المرايا سوى التفات الصمت…» (ص.19)، وفي قصيدة (يحرسني غيابك) تدفع الوحدة الشاعر للبحث عن الجماعة والذكريات مع الآخر «وأنت تعدو في مجاهل أمسك المنسيّ/ تسأل في براري الغيب/ عن فجر يعود إلى وصالك» (ص.29)، أضفت لفظة (براري) على الكلمة المضافة (الغيب) نوعًا من الاغتراب النفسي الذي يعيشه الشاعر بعد أن عبّر بشكل مباشر عمّا يعتلج لا وعيه من قلق.
ارتبط الحبّ لدى علي الحازمي بالوجع والماضي متوّجًا الوحدة برفضها والبحث عن متنفس متمثل بالبوح «فيا حبّ…عقدناكَ نايًا بليل مواجعنا في الغياب/ فهيّئ لنا/ في دروب الوصول اليك قدم» (ص.92).
حركة الإيقاع والمستوى المعجمي
منح نظام التفعيلة الذي اعتمده الشاعر في مجمل قصائده في تقدّم النصوص نحو المتلقّي بصيغ إيقاعيّة مختلفة بدءًا بتوازن السطور الشعريّة «ناديتُ من نومي/ بأعلى ما استطعت» (ص.19)، والتكرار الذي شمل تحديدا أحرف الجر وأداة الجزم (لم) والسجع «شالها شغف الورود/ وعطرها عبق الوجود» (ص.29)، والتكرار وصل إلى المستوى المعجمي، حيث تواترت في أكثر من قصيدة كلمات مثل الغيب/ والشال/ الأهداب/ الدموع… وقد ساهم التكرار في بناء هويّة المجموعة ككلّ ومنحها إلى جانب الوزن مستوى موسيقيا ولغويا متماسكا، لكنّ نظام التفعيلة وضع على الشاعر شروطه أو ربّما قيوده اللفظيّة، فعلى سبيل المثال في قصيدة (جدار الريح) ورد التشبيه الآتي: «…كالشمس في شال الغياب/ تساقطت أهداب من هرعوا» (ص.17)، ألم يكن من الأجدى أن يحمل السياق عبارة «كخيوط الشمس في شال الغياب…»؟ هل حرم الوزن الحازمي من إدخال عبارة توازن ما بين جزء من الشمس والأهداب؟ أم اختار الشاعر التجديد من ناحية التصوير؟ السؤالان نفسيهما ينطبقان على ما ورد في قصيدة (يجدون أسبابًا)، «… مثقلًا بالوهم والليل الجريح» (ص.23)، هل الليل بصفته المجروحة يضيف ثقلًا إلى الفرد؟ أم يكون موضع ثقل تجاه نفسه؟
أتت مجموعة علي الحازمي انطلاقة لبناء عالم مختلف وجديد يبدأ بالاكتشاف الذاتي ولا ينتهي عند التفاهم مع الوحدة والتعرّف إليها، والحق أنّ الأسى بوجهيه الإيقاعيّ والدلالي قد ساعد الشاعر على تشييد محراب الوحدة والحفاظ على الوحدة الموضوعاتيّة الخاصّة بالمجموعة.