عمل في الصحافة عقوداً، واختار العُزلة بعد سنوات من العمل في التعليم والصحافة.
طفولته مليئة بالمواقف، والحكايات، وبعض العتب!
في هذا الحوار، أردت من خلال الأسئلة، وأراد من خلال الإجابات، أن نفتح نافذة مشرعة على عبدالمحسن الإنسان، والأديب المبدع، والصحفي.. فإلى الحوار:
• في 1983 التحقت بصحيفة «عكاظ» محرراً في القسم الثقافي، وخرجت منها وأنت مدير تحرير.. ماذا أعطتك الصحافة؟ وماذا أخذت منك؟
•• هذا السؤال محرّضٌ على كتابةِ كتابٍ عن تجربتي الطويلة في صحيفة «عكاظ»، ومن الصعب اختزال تجربة مليئة كهذه في بضع جمل سريعة وعابرة.. التحقت بهذه الصحيفة العظيمة للعمل محرراً متعاوناً بالقسم الثقافي بمحض الصدفة، كان عمري 20 عاماً عندما دخلتها، كنت قادماً للتو من جزيرة فرسان للدراسة الجامعية، ولم يدرْ في خلدي أن أعمل بالصحافة أبداً، وإن كنتُ أنشر في العديد من صحف بلادنا نصوص البدايات مْذْ كنت تلميذاً صغيراً في المرحلة المتوسطة.. وفي المرحلة الثانوية كنت أراسل «عكاظ» بالبريد العادي، وكان أستاذي الكبير مصطفى إدريس يولي نصوصي عناية خاصة، يحدث هذا من دون أي معرفة شخصية سابقة به، كذلك كنت أنا القابع في الظلال والنائي في الزرقة في جزيرة فرسان أراسل الملاحق الثقافية الرصينة في بلادنا عبر البريد العادي أيضاً؛ منها مثلا ملحق «المربد» في صحيفة «اليوم» الذي كان يشرف عليه أستاذي الشاعر الكبير علي الدميني -رحمه الله-، والملحق الثقافي بصحيفة «الرياض» الذي يشرف عليه القاص الكبير محمد علوان، والملحق الثقافي في صحيفة «المدينة» الذي يشرف عليه القاص الرائد سباعي عثمان، وملحق «أصوات» العظيم بمجلة «اليمامة» الذي كان يشرف عليه الشاعر الجميل محمد جبر الحربي، والملحق الثقافي بمجلة «اقرأ» الذي كان يشرف عليه القاص الكبير فهد الخليوي، والملحق الثقافي بصحيفة «الجزيرة» الذي كان يشرف عليه القاص المبدع سعد الدوسري.
نعم، عملت في «عكاظ» بمحض الصدفة، ولم أذهب إلى مبنى الصحيفة بقرار شخصي رغبةً في العمل بها.. وهنا تلمع في البال حكاية طريفة أحببت أن أرويها.. وأنا أرويها هنا للمرة الأولى.. كنت أسكن في حي الهنداوية، وتعرفت في هذا الحي على الصديق عبده خال الذي كان قد سبقني بعام للعمل بـ«عكاظ» محرراً متعاوناً.. طلب عبده إجراء حوار معي، وكان ذلك الحوار هو أول حوار في حياتي، وافقت بعد تردد؛ لأني كنت أقول لنفسي: ماذا لديك لتقوله للناس فيما أنت للتو تخرج من البيضة؟.. لكن -وأمام إلحاح عبده- وافقت، وبتوفيق من الله كان الحوار جميلاً، وعنوانه أجمل هكذا: «الشاعر عبدالمحسن: الذباب أكل الزمن وانتهى كل شيء».. وبدلاً من أن ينشره عبده خال في «عكاظ» التي يعمل بها وتمنحه مكافأة قيمتها ألفان من الريالات، نشره في مجلة «اقرأ» التي فردت له عدداً من الصفحات وصوراً كانت بعدسة مصور من «عكاظ»!، المهم، عندما قرأ الدكتور هاشم عبده هاشم -رئيس تحرير «عكاظ» حينذاك- الحوار الذي أعجبه كثيراً في «اقرأ» ثارت ثائرته على عبده، واستدعاه لمكتبه، وقال له غاضباً: كيف تنشر هذا الحوار الجميل في «اقرأ» وأنت تعمل في «عكاظ»؟ وأضاف: أنت أمام خيارين هما: إما أن تحضر عبدالمحسن إلى مكتبي غداً -وهو الذي كان قد قرأ لي قبل ذلك بعام نصّاً طويلاً في الملحق الثقافي بصحيفة الرياض وسأل عني حينها، فقيل له هذا طالبٌ في المرحلة الثانوية يسكن في «جزيرة فرسان»- أو نحسم عليك أربعة أيام من راتبك! جاءني عبده وهو يقول: بيدك أن تنقذني من هذه الورطة، سيحسمون عليَّ أربعة أيام من المكافأة، فما الذي سوف يبقى منها؟.. الدكتور هاشم يريد أن يراك.. وإذّاك وافقتُ على الذهاب مع عبده إلى مكتب رئيس تحرير «عكاظ» التاريخي وأنا أتصبب عرقاً من فرط الخجل وشدة الارتباك.. وهنا عرض عليَّ الدكتور هاشم العمل محرراً متعاوناً بالقسم الثقافي.. وافقتُ على مضض؛ لأني وبصدقٍ شديدٍ أقول كنت فقيراً، أسكن في غرفة صغيرة في السطوح، ولقد كنتُ محتاجاً لتلك المكافأة التي تشبه المكافأة الشهرية المقدمة لعبده خال.
«عكاظ» لم تكن مؤسسة صحفية فقط، لم تكن مبنىً أسمنتيّاً ناشفاً أو عالماً معزولاً عن الجمال والحياة.. بل كانت ملتقىً إعلامياً وثقافيّاً وفكريّاً وإبداعيّاً وإنسانيّاً أيضاً.. لقد كانت تعجّ بأسماء كبيرة من بلدان عربية شتى.. من مصر والسودان واليمن والجزائر وتونس ولبنان… إلخ، وكان المبنى زاخراً بالمبدعين والمثقفين والمستنيرين والشغوفين بالقراءة والكتب.. وهنا حدث احتكاكٌ ثقافيٌّ هائلٌ يستعصي على الوصف.. وأنا واحدٌ ممن أفادوا من هذا الجو العامر بالثقافة والجمال والحوار والتأثير والتأثر.. لهذا قدمت لي «عكاظ» مُذْ كان عمري 20 عاماً ما لم تستطع الجامعة أن تقدمه لي أنا المتخصص في الإعلام والمتخرج من كلية الآداب قسم الإعلام بجامعة الملك عبدالعزيز، أخجل أن أتحدث عمّا قدمتُه لـ«عكاظ»، وأخجل أن أخوض في كلامٍ كهذا، لأن الذي قدمتُه أنا لهذه الجريدة من عطاء ومحبة وإخلاص وبذل وضوء عينين هو محضُ قطرةٍ في نهرِ عطائها الكبير.. يكفي أنها قدمتني للقراء ومنحتني ذيوعاً لم أكن أحلم به على الإطلاق.
أخيراً وددتُ أن أنهي الكلام في هذا المحور بهذا الموقف:
عَرَضَ عليَّ رئيس التحرير حينذاك أستاذي الدكتور هاشم عبده هاشم منصب نائب رئيس التحرير، قائلا بفرح «رئيس مجلس إدارة المؤسسة هو الذي اقترح اسمك».. كان يظنُّ أنني سأطيرُ فرحاً، لكنني خيّبْتُ ظَنَّهُ حين اعتذرتُ له على الفور عن قبول هذا المنصب.. هنا قال لي بلغةٍ يشوبها الغضب «كيف ترفض منصباً بهذا المستوى الرفيع؟» وأضاف «إنهم يتقاتلون عليه بالرماح والسيوف».. باحترامٍ شديدٍ وبصوتٍ هادئٍ قلت: أجملُ أحلامي في هذه الدنيا أن أقرأ كتاباً جيداً وأن أكتبَ نصّاً يرضى عنه قلبي، وختمتُ كلامي: سأدعه لهم.. فليتقاتلوا عليه بالرماحِ والسيوفِ والحجارة.
• أنت تكتب القصيدة الفصيحة وتكتب الشعبية أيضاً.. هل يوجد فرق في كتابة القصيدتين؟
•• أنا لا أكتب القصيدة يا صديقي.. إنما هي التي تكتبني.. ما يحدث قبل كتابة القصيدة يمكن وصفه بأنه هاجسٌ صغيرٌ أو دندنةٌ يسيرةٌ مُبْهَمة أو تحليقٌ حَذِرٌ في عتمةٍ مطلقة، ويحدث أن أستسلم لهذه الحال التي قد تتمخض عن نصٍّ قد يكون قصيدة بيتية أو قصيدةَ تفعيلةٍ أو قصيدةَ نثرٍ أو قصيدة محكية بلسانٍ شعبيٍّ مبين، أو ربَّما تكون عدماً.
لم يحدث أبداً أنْ قررتُ كيف يكونُ شكل الوليد الجديد؛ لغته، أو صوته، قامته، أو لون أجنحته، أو لون عينيه.. كما يخرج هو للنور أحتفي به وأرحب، المهم عندي هو أن يأتي صادقاً ودافئاً وجميلاً وقابلاً للحياة وقريباً من روحي ونبضي وهواجسي الكبيرة.
• متى بدأت علاقتك بالكتب؟ وكيف؟
•• منذ طفولتي وأنا أعشق الكتب، هكذا وجدتُ نفسي، تماماً مثلما يعشق بعض الأطفال ركوب الدراجات أو لعب كرة القدم أو قطف الثمار خِلْسة من شجر الجيران أو صيد السمك تحت ضوء القمر أو الرسم أو الشخبطة على الجدران.. لم تكن لدينا مكتبة عامة وكبيرة في جزيرة فرسان حيث تحاصرنا الزرقة الضريرة من جميع الجهات.. لكن كانت هناك مكتبة صغيرة تتبع المدرسة الابتدائية التي كنت أدرس بها، وكانت معظم كتبها من تلك الكتب التي يمكن وصفها بأنها كانت ذات دَمٍ ثقيل.. نحن أطفال بيْدَ أن هذه المكتبة لم تكن تدير أعناقها للطفولة البريئة، ولم تكن تكترث لحاجات تلك الطفولة من المتعة والتسلية والتثقيف الشفيف القريب من روحها.. ما لي أنا -وأنا في هذه السنِّ الغضّة- وكتاب مثل «ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟» للندوي.. المهم أذكر أنني وجدت ضالتي في كتب صغيرة هي تلخيصٌ لبعض الروايات والمسرحيات العالمية الذائعة، تمَّ إصدارها خصّيصاً للأطفال مثل «تاجر البندقية» لشكسبير، أو «البؤساء» لفيكتور هوغو… إلخ، ولست أدري كيف جاءت إلى مكتبة مدرستنا، مع أني كنت أحلم بكتب قصصية جميلة كالتي يكتبها زكريا تامر للأطفال.. على أيِّ حال، ثمة أجمل من هذا كلِّهِ يتلخص في وجود مجلة «قافلة الزيت» -التي صار اسمها «القافلة» في ما بعد، هذه المجلة كانت تصلُ إلى جزيرتنا عبر البريد، وكانت تنشرُ قصصاً عالمية مترجمة للكبار، مثل مكسيم جوركي، وديكنز، وتشيخوف… إلخ، وكان أستاذي الجليل الشاعر إبراهيم مفتاح؛ الذي كان يعلمنا اللغة العربية، يستثمر حصة التعبير في قراءة تلك القصص على أسماعنا، وكان يطلب منا إعادة روايتها شفاهة وإعادة كتابتها بأسلوبنا الخاص في كراسة مادة التعبير، وكان ينفق وقتاً ثميناً في متابعة ما سردته أقلامُنا الصغيرة، وكان -والحق يُقال- يتعبُ كثيراً في تصحيح ما سطرته أيدينا.. أذكر أن هذا الجمال المطلق كان يحدث لنا ونحن في الصفين الخامس والسادس، وكانت حصة التعبير تلك من أجمل وأحب وأقرب الحصص إلى قلبي وروحي.
هذه المبادرات من أستاذنا الكبير مفتاح كانت مفتاحاً لي ولسواي لفتح أبوابٍ جميلةٍ تفضي إلى عالم القراءة الشاسع والعريض.. كما جعلتني شغوفاً بالكتب ومخلصاً لها.. وهنا لا أنسى الدور الكبير النبيل الذي لعبه معي الأستاذ محمد إبراهيم خميس، وكان يشغل وظيفةَ أمين تلك المكتبة، لم يبخلْ عليَّ -أنا الفتى الفقير الشغوف بالقراءة- بكتابٍ أبداً.. أيضا عندما كان يأتي «البريد» كان يخبئ «قافلة الزيت»، و«اليمامة»، و«اقرأ»، بعيداً عن عيون بعض المعلمين الشغوفين بالقراءة والثقافة والإبداع.. وقبل «الصَّرْفَة» بدقائق يضعها في حقيبتي وهو يقول لي باسماً «أنت يا ولدي أحقُّ بها منهم».. في ذلك الزمن الحافي كان وصول هذه المجلات الثلاث التي تُعْنى بالثقافة والآداب والفنون إلى «جزيرة فرسان» أمراً يشبه المستحيل..
هذه التجربة يمكن تلخيصها في عبارة يسيرة مفادها: إذا وَجدَت القطرةُ من يتبنّاها استحالت نهراً، وإذا وجد الغصنُ من يرعاه استحال شجرة وارفة.
كبر هذا العشق -عشق الكتب- مع الزمن واستحال هاجساً يوميّاً ليس بوسعي التخلي عنه لأنه أضحى جزءاً عزيزاً من حياتي كلها.
• المبدع لدينا.. هل تختلف نظرتنا له في حياته وبعد موته؟
•• سأوجز إجابتي هكذا: في عالمنا العربي، يَجْهَدُ المبدعُ طويلاً كي يحظى بفرصةٍ لطباعةِ كتابه الغافي في درج مكتبه لسنوات.. ليس ثمة من يلتفتُ إليه أو يكترثُ به.. لكنه إذا غابَ عن عالمنا تُقام له ولائمُ من الكلامِ الجميل، وتُعَّدُ في شخصهِ ونصِّهِ -الذي لم يُقْرَأ- حفلاتُ المراثي الطويلة، وتُقالُ وتُكْتَبُ في سيرتِهِ معلقاتُ المديحِ الذي لا ينتهي.. وهنا لا يسعني إلا أن أقول: صدق الشاعر العربي الكبير محمود درويش حين قال «يحبّونني ميتاً».
• أنت معجب بالقاص عبدالله باخشوين (رحمه الله)، ما الذي وجدته في باخشوين ولم تجده في غيره من الأدباء والمثقفين الذين عرفتهم؟
•• الروائي والقاص الكبير والقارئ الخطير عبدالله باخشوين (رحمه الله) كان أستاذاً لي في القراءة والحياة، وكان أباً روحيّاً حقيقيّاً.. كان يقسو عليّ فعلاً إذا وجدني لم أقرأ كتاباً اقترحه هو أو اقترحه عليَّ أحدٌ سواه ممن يثق في وعيه وذائقته وإخلاصه للجمال والإبداع.. كان يريدني أن أقرأ.. أن أقرأ وحسب.. وكان يقول لي بحدّتهِ المعهودة «اقرأ لتتجاوز ذاتك، اقرأ لتتميز على سواك».. ذات مرة وجد عندي في مكتبتي رواية «الفراشة» لهنري شاريير.. كنت طالباً في الجامعة، وكنت حينذاك في الـ23.. عندما رأى الرواية طار من الفرح؛ لهذا سألني: هل قرأتها؟ كيف وجدتها؟ ما انطباعك عنها؟.. وقلت له بخجل: لا لم أقرأها حتى الآن -وسبب إحجامي عن قراءتها حينذاك ضخامتها، فهي في أكثر من 500 صفحة- وهنا غضب مني غضباً شديداً.. وقال مقرِّعاً «أنت عامل نفسك مثقف.. كيف تكون مثقفاً.. كيف؟ كيف تكون كاتباً مميزاً؟ كيف تكون مبدعاً مختلفاً؟ كيف تكون مغايراً وأنت لا تقرأ.. كيف؟».. وشعرتُ لحظتها أن تلّاً من «كيف» كان ينهمرُ عليَّ كانهمارِ حجارةٍ كثيفةٍ من السماء.. هبطنا معاً من الشقة، وكانت زوجته مدام عفاف تنتظرنا في السيارة لنذهب معاً في مشوار؛ إذْ كانا يعاملانني كغصنٍ من شجرةِ العائلة.. ما إن استقر على مقعد القيادة، التفتَ إليها وهو يسأل وفي صوته غضب: كم مرة قرأتِ الفراشة، يا عفاف؟ قالت: ثلاث مرات.. وهنا أضاف بحدّةٍ كبيرة «شوفي الأفندي هذا عامل نفسه شاعر ومثقف وفنان وهو لم يقرأ حتى الآن «الفراشة» الموجودة في مكتبته منذ سنوات». وأضيف حكاية أخرى، أوجزها هكذا: ذات يوم، وأنا في مقتبل العمر تحديداً، كنت في معرض الكتاب بالقاهرة في معية باخشوين.. عندما شاهدتُ الكتب أصبت بلوثة، أو بحالة هي أشبه بالهستيريا، ورحتُ أتناولُ من «الرفوف» رواياتٍ لكتّابٍ عرب مشهورين، هم في صفوة «النجوم».. أتناولها من دون تدقيق أو تمحيص، وأضعها في سلّتي بسعادةٍ غامرةٍ وفرحٍ نادرٍ يشبه فرحَ طفلٍ عَثَرَ على «ألعابٍ» جميلة، بل كنتُ كمَنْ وَجَدَ كنوزاً خَلَبَتْ لُبَّهُ.. في هذه الأثناء فوجئتُ بباخشوين -وهو القارئ النهم، الخبير بالأدب العالمي الرصين- ينهرني بقسوة وهو يقول: محسن، دَعْكَ من هؤلاء.. اشترِ كتباً لمن سرق هؤلاء منهم.. والحقَّ أقولُ لكم: منذ ذلك الوقت وأنا أعمل بنصيحتِهِ الثمينة.
لهذا كله أنا أحبُّ أستاذي الصادقَ الحادَّ الجميل باخشوين (رحمه الله).. لكم كنتُ محظوظاً بوجوده في حياتي.
• كيف ترى الأصدقاء في حياتك؟
•• الأصدقاء الحقيقيون، أعني أصدقائي، لا يتجاوزون عدد أصابع اليد الواحدة.. هؤلاء يمكن أن أقول عنهم إنهم سندي وعزوتي وقارب نجاتي في العواصف والملمات، هكذا علمتني الحياة والتجربة الطويلة في هذه الدنيا.. دعك من كلمة «صديقي» هذه التي تمَّ استهلاكها كثيراً في الوسط الثقافي.. إنها محض كلمة عابرة.. إذْ كيف يمكن أن أدعو أحدهم «صديقي» -وأعني هنا صديقي المثقف الكبير- وهو يطعنني خلسة بمديةٍ خسيسةٍ في ظهري عند رئيس التحرير، كاتباً في شخصي الضعيف تقريراً كريها وبائساً محرّضاً أستاذنا الكبير ذاك على الاستغناء عن خدماتي وانتزاعي عنوة من «عكاظ الأسبوعية» التي كانت ناجحة وكان توزيعها عالياً وكنت أنا مدير تحريرها.. هو ارتكب تلك الفعلة الشنيعة؛ لأنه كان يطمع في أن يتبوأ هذا المنصب بدلاً مني.. رأيت ذلك التقرير مكتوباً بخط يده، حيث أطلعني عليه رئيس التحرير، وهذا الأخير أبدى اندهاشاً كبيراً من خسّةِ ذلك الشخص الذي يُوصف في وسطنا الثقافي بأنه «مثقفٌ كبيرٌ»، فيما هو يضيقُ ذرعاً من نجاحاتِ زميلٍ له في المهنة والحرف والأحلام الجميلة.
• تغيب أو تُغيّب عن الكثير من الفعاليات الثقافية في جزيرة فرسان التي ولدت ونشأت فيها.. لماذا؟
•• في «فرسان» تحديداً أحضر كل المناسبات الثقافية التي أُدْعى لها.. باستثناء ثلاث مناسبات ثقافية مهمة غبت عنها مع أني دعيت إليها، بعضها وصلتني الدعوة إليها في وقت مبكر، وبعضها وصلتني الدعوة إليها قبل إقامة المناسبة بيومين!
المهم أنا الذي غبت؛ غبت عن المناسبة الأولى بسبب مرض ابني عمر، وغبت عن المناسبة الثانية بسبب موت عمتي وعمي «والد زوجتي» المفاجئ وموت ابنتهما الكبرى التي أعدّها في مقام شقيقتي وذلك بعد معاناة شديدة مع الخبيث وانهيار صحتها بشكل سريع، إذْ فرغ البيتُ تماماً من ساكنيه فيما هم غادروا جميعاً إلى بساتين الآخرة، وغبت عن المناسبة الثالثة بسبب إصابة ابنة أختي بمشكلة صحية كبيرة في الدماغ وانشغالي بها ووقوفي إلى جوارها وهي في غرفة العمليات وغرفة العناية الفائقة.. كل تلك الأحداث الأليمة أراها أسباباً كافية للغياب.
أنا على يقينٍ من أنّ القيّمين على تلك المناسبات الثقافية الثلاث المقامة في جزيرة فرسان -التي غبتُ عنها- هم على مستوى عالٍ من الثقافةِ والأخلاق، هذه القناعة لن تتزعزع أبداً.. وأنا أعلم مكانتي جيداً عندهم وأعلم منزلتي في قلوبهم المليئة بالمحبة.. فهم أهلٌ لي، جيراني، ورفاقُ درب ولا يبدر منهم أبداً ما يمكن تسميته سلوكاً إقصائياً، على أيِّ حال ما حدث حدث.. وأنا لا أحب الخوض في ما حدث.
• يبدو أنّ علاقتك بالمؤسسات الأدبية، وخصوصاً الأندية الأدبية، غير جيدة، لماذا؟
•• في ما مضى كنت ممن يَغْشَوْن الأندية الأدبية ويحرصون على حضور أمسياتها وندواتها وملتقياتها، لكن حين استولى الأكاديميون على تلك الأندية توقفتُ عن الذهاب إليها مشاركاً أو متفرجاً.. وثمة سبب آخر للنأي بالنفس هو: معظم هذه الأندية دأبت على استضافة أسماء بعينها.. فمن يقيم محاضرة في نادي جدة، غداً تجده مشاركاً في نادي جازان وهكذا، وهكذا.. وكأنه ليس في هذا البلد إلا هذا الولد.. تكرارٌ ممل، ومجاملاتٌ مكشوفة، ومُنْتَجٌ رث.
سأحكي لك حكاية مؤلمة جدّاً حدثت لي أنا الذي كنتُ أحتفي في «عكاظ الأسبوعية» بكل قلمٍ موهوب وبكل كلمةٍ واعدة وأقف مع الجميع، أوجزها هكذا: ذات صباح، هاتفتُ رئيسَ نادٍ أدبيٍّ قلتُ له متفائلاً: يسعدني أن تطبعوا ديواني الجديد «مطرٌ كسولٌ على الباب».. بعد سطرين من المجاملات المعتادة، قال لي جادّاً وقاطعاً كسكّين «امسكْ سِرَا»، سألته: بمعنى؟ أجاب: يلزمك الانتظار طويلاً في طابور طويل!.. بعد هذا الحوار المقتصد آثرتُ أن يبقى «مطري الكسول» نائماً مطمئناً في درج مكتبي.. العجيب أن رئيس هذا النادي نفسه قام بطباعة ثلاثة أو أربعة كتب لشخص واحد، حدث هذا مرات عديدة وتكررت الحالات، بينما يطلب مني أن أنتظر طويلاً أنا الذي حلمت بأن يَطبع لي ديواناً واحداً فقط.
وها هي الحكاية الثانية أسردها هنا مطليّة بألمٍ لا نظير له: أرسل لي رئيسُ نادٍ أدبي دعوة لإحياء أمسية شعرية يشارك فيها عددٌ كبيرٌ من الشعراء «والعدد في اللمون كما يقول أشقاؤنا في مصر» أرسلها عبر «الواتساب»، تماماً مثل دعوة «عقد القِران» أو مثل «عزومة» على مفطحات كالتي كانت تقدمها الأندية الأدبية عقب كل أمسية.. لم ينتظر قليلاً، لم يتابع، لم يتصل، لم يأخذْ ويعطِ معي.. حتى أنه لم يحفَلْ بردّي عليه.. نعم أرسل دعوته على عجل كطفلٍ شقيٍّ ألقى حجراً على طائر ومضى بعيداً وكأنَّ مهمته تتلخص في تأدية هذا الواجب الثقيل وحسب.. على أيِّ حال كيف يسلك مسؤولٌ عن مؤسسة ثقافية سلوكاً مزرياً كهذا، متحللاً من أيِّ تقاليد أو قيم تنتمي للثقافة؟
• غضبت من ملتقى «الملاحق الثقافية» ووصفته بـ«الملتقى الضرير».. لماذا؟
•• سبب غضبي سوف يتضح لك من سياق هذه الحكاية: وصلتني رسالة على «الواتساب» قبل إقامة ملتقى عن «الملاحق الثقافية» بيومين أو ثلاثة أيام فقط، وكأنني أقف على عتبة باب بيتي، ممسكاً بحقيبتي في انتظار أي دعوة لأطير فوراً إلى المطار فرحاً مستبشراً!
نعم وصلتني الدعوة، كما لو كانت دعوة لحضور «عقد قِران»، ثم إن هذه الدعوة المتأخرة الموجهة لي لم تذكرْ «مكاني من الإعراب» في هذا الملتقى: هل أنا مشارك، متحدث، أم مجرد ضيف، وعابر سبيل؟
لقد كانت مكتوبة بصيغة «مايعة» وغامضة ومرتبكة.. ثم ما معنى عنوان الملتقى «صوب الملاحق الثقافية»؟ وهل يفضي إلى مقاصد هذا الملتقى بكل وضوح؟.. ثم إن هذه الدعوة لم يسبقها اتصال أو يتبعها شرح يوضح ماهية هذا الملتقى ودوري فيه تحديداً؛ أنا الذي أسهمت وشاركت وأشرفت على إنشاء «ملاحق ثقافية» في صحافتنا المحلية («عكاظ»، «الوطن»، «الشرق») اهتمت بالإبداع والأقلام المبدعة سنوات طويلة!.. صحيح، هم -ولست أدري من هم هؤلاء- أرسلوا جدول أعمال الملتقى ومكان إقامته والمدة الزمنية التي يستغرقها، ولكنهم أخفوا اسم المتحدث أو صاحب الورقة المقدمة تحت قناع «رمز ثقافي» وكأنه سر من الأسرار العسكرية!
في سياق آخر، وهذا هو الأمر الذي دفعني إلى وصف الملتقى إياه بالملتقى الضرير؛ لكونه لم يتقن التحديق في ساحتنا الثقافية ليحسن اختيار المحاضرين أو المتحدثين أو أصحاب الأوراق المقدمة.. بدليل أن أحدهم كان يتحدث في هذا الملتقى بوصفه مؤرخاً، فيما حديثه -والله العظيم أقولها صادقا- كان يشبهُ حديثَ لاعبِ كرةٍ معتزلٍ يجلسُ في «مركاز» لتزجيةِ الوقت وطردِ ذبابِ الضّجر.
• أيهما أكثر تأثيراً وأهمية في كتابة القصيدة، شكل القصيدة أم ثقافة الشاعر ووعيه ولغته؟
•• المهم عندي ليس شكل القصيدة.. المهم هو أن يكون الشاعرُ موهوباً حقّاً، و«تعبان على نفسه»، وقارئاً مخلصاً لتجارب الآخرين، ومنفتحاً على ما يحدث في العالم من حراكٍ إبداعيٍّ وثقافيٍّ رصين ومحترم، وأن ينأى عن الخِفّة، والاسترزاق، وأن يكتبَ محبَّة في الكتابةِ نفسِها وليس في حصد الجوائز، والحصول على مكاسب ليست لها علاقة بالإبداع والجمال، أو حصد الذيوع، والنجومية، والأضواء، فالأضواء فاسدةٌ كما تقول الروائية العظيمة إزابيل الليندي.
• ذاكرتك عامرة بقراءة الكتب وخصوصاً الروايات العالمية.. ما تأثير هذه القراءات على كتابتك القصيدة؟
•• في الروايات تشغلني دائماً مصائر البشر، لهذا أنا شغوفٌ بقراءة السرد، وأعني بالسرد هنا ذلك السرد الجميل الفاتن الذي «يأخذ العقل» كما نقول في حياتنا العامة.. وأحرص جادّاً على شراء الروايات التي لها حضور عميق في تاريخ الأدب، وفي دنيا الكتابة المرموقة، وفي مراقبة هذا العالم الزاخر بالحزن والموت والخراب.. وبصدقٍ أقول: أنا أقرأ ذلك الأثر السردي العالمي للمتعة بالدرجة الأولى، ولم أهجسْ أبداً بما يلقيه على تجربتي الشعرية من ظلال.. تلك مسألة نفعية ربما وأنا لا أحب المسائل النفعية في الأدب.. ربما يحدث ذلك، أقول ربما وهذا أمر مقبول وأعني بذلك أن هذه القراءات قد تمنح نصي كثيراً من الثراء والعمق الإنساني والوهج اللغوي واتساع التجربة، وهذا من الدوافع التي تجعلني أكثر تشبثّاً بها.
أعود إلى موضوع مصائر البشر الذي تُعنى به الروايات العظيمة؛ مثلاً «غريغوري سامسا» الشخصية المحورية في رواية «المسخ» لكافكا، ظلَّ مصيره يؤرقني منذ قراءة تلك الرواية، في وقت مبكر، وظللت متلبساً بذلك المصير حتى اللحظة.. أن يستيقظ الإنسانُ صباحاً ليجد نفسه محض «حشرة» أمر مرعب للغاية.. والأمر الأكثر رعباً أن يظلَّ متشاغلاً بالذهاب إلى الوظيفة التي لم يغب عنها يوماً!
كذلك رواية «العمى» للبرتغالي الحاصل على جائزة نوبل جوزيه ساراماغو من الروايات التي سكنتني تماماً، إنه ببراعة تامة يروي مصائر بشر ٍ حَلَّ بمدينتهم «وباء» غامض -كهذا الذي كنا نعاني منه في العامين الماضيين أو أشد ضراوة منه- فأضحوا جميعاً عمياناً، وهو هنا يروي -في ما يروي- تعفن الإنسانية وارتدادها الشنيع إلى مرتبة الحيوانية أو ما دونها؛ حيث يخوض الإنسان في الغائط وما من أحدٍ يكترث.. على أيِّ حال، في هذا السياق -سياق الحديث عن الروايات- راقت لي عبارة فاتنة قالها الروائي جورج سيمنون مفادها «قراءة الروايات تشبه حالة التلصص على الجيران من ثقبِ باب».. وأنا أفعل ذلك تقريباً، لكنَّ تلصصي ليس على الجيران فقط، وإنما على العالم.
• ما الذي يغضبك من النقاد؟
•• يغضبني ويزعجني انحياز بعض النقاد لمجموعة مغلقة من الشعراء، مع احترامي لهم ولما ينتجون، ويتم التغافل عمّن سواهم وربما يكونون أكثر إبداعاً وموهبة.. كذلك يزعجني أولئك النقاد الذين أطلق عليهم المؤرخ الثقافي والمثقف الخطير والناقد الشجاع الأستاذ حسين بافقيه وصف «نقاد الكتالوج» حيث الرؤى الجاهزة التي يتم تطبيقها على النص.. كذلك يزعجني النقاد الذين يمعنون في الرطانة وكأننا أمام طلاسم نحتاج إلى كاهن أو ساحر كي يفك أسرارها العصية على الفهم.. كذلك النقاد الذين يتعالون ولا يتفاعلون مع النصوص المنشورة في المنابر الثقافية على اتساعها.. ويكتفون بإنزال النص الإبداعي إلى مستوى النظرية التي جلبوها من تربةٍ مغايرةٍ لتربتنا الثقافية والفكرية والإبداعية.. وثمّة من يلوي أعناق النصوص ليثبت فقط جمال نظريته التي «استلفها» من الآخرين وأنها قادرة على التألق والبقاء.. كما لا يروق لي أولئك النقاد الذين لا يقرأون، وإنما يعتمدون في كتابة أوراقهم التي يلقونها في الملتقيات الثقافية على التذاكي والفهلوة كما لو كنا في «سيرك» كبير.. ولا يروق لي كذلك النقاد الذين يكثر وجودهم في صالات المطارات؛ حيث يحرصون على المشاركة في الأمسيات والندوات والملتقيات والسفر الدائم أكثر من حرصهم على زيارة المكتبات والقراءة الجادة وإذكاء الوعي وتطوير الأدوات.
• لماذا يكثر ذكر البحر ومفردات الماء في قصائدك؟
•• الإجابة يسيرة، وهي من البداهة بمكان: لأنني ابن جزيرة يحيط بها الماء من كل الجهات.