ولم يكن الكاتب عبدالله صالح القرني بعيداً عن أسلافنا «الحِرقين»، أو ذوي الدماء الحارة، الطامحين لعمل كل ما يجول ببالهم وخيالهم، دون انشغال بوعورة الطريق، ولا محدودية الوقت، ولا مرونة و إمكانية الجسد، فليس شرطاً دائماً أن يكون العقل السليم في الجسم السليم، كما تقول الحكمة الجائرة، التي نقضها إبداعُ مبدعين لم تكن أجسادهم متناغمة مع إيقاع وجدانهم وأدمغتهم وكفاحهم اليومي.
من جبال تهامة الشامخة نبتت الموهبة، ولشدة تعلقه بالنور، كان من آخر الذين يزفّون الشمس للمبيت، وفي دواخلهم حنين وخوفٌ من الظلام البهيم، وبمجرد توفر الكهرباء، وافتتاح مكتب للبريد، أشرع قلبه ووعيه من فوق صخرة اتخذها مقعداً؛ ليحرر من فوقها مقالاته ونقده وقصائده، ويبعث بها إلى العناوين المدونة على ترويسة المطبوعات، وزاد التعلق بالمهنة ومتاعبها.
نجح أبو ياسر في مد الجسور في زمن قياسي، فكان يضيف لقائمة الأصدقاء، كل يومٍ وجهاً جديداً، بل ربما أكثر من صديق، ولطالما تبنى مبدأ «افتحوا النوافذ شبعنا من الظلام»، وسرعان ما حضر اسمه، وارتفعت أسهمه، فكتابة المُلهم «غير»، وكذلك بعض أفكاره، ولعل أبرز شاهدٍ على ذلك فكرته لمسلسل طاش ما طاش «إرهاب أكاديمي».
وصل القرني عبدالله – رحمه الله – بنصّه إلى رؤساء تحرير صحف ومجلات، قبل أن يصلهم بشخصه، ولفت انتباه مشرفي صفحات، وملفات، وملاحق ثقافية، فهذا «الأيقونة» له بصمة كتابية، فيها من صلابة الطبيعة ما يكُلّف المشاق، ومن أخلاق العاشق ما يُحفّز سماح المعشوق، وفيها من حدة النقد ما يلفت انتباه المسؤول، ومن جمال الأسلوب ما يُثير استفهامات السائل، ومن الصراخ المكتوم ما يحرك ويهز فروع الإجابات.
يأسر أبو ياسر كل من يلتقيه، بدماثة الخُلق، وفرائحية التعليق، وبشاشة الوجه، وعُمق الطرح، وكان أوّل لقاء به، في الباحة، لافتاً لصلته الوثيقة بتاريخ الصعاليك، وحفظ أشعارهم، وهام بعروة بن الورد، والأحيمر السعدي صاحب البيت الشهير «عوى الذئبُ فاستأنستُ بالذئب إذ عوى.. وصوّت إنسانٌ فكدتُ أطيرُ».
في مطلع سبتمبر الماضي 2022، رحل الثائر على الرتابة والرتب، متأبطاً حُسن الظن بالله، واعتلى نجم المثير بأحرفه، صاعداً للسماء، بهدوء، عكس ما كان عليه مشوار الحياة القاسي، وكانت شهادات الأصدقاء والرفاق بلسماً لأسرته وهم يذكرون محاسن «حافظ سيرة الصعاليك».