ليست مبادرات التقريب بين المذاهب الإسلامية جديدة، وقد اضطلعت بها مؤسسات إسلامية رائدة؛ من أهمها مشيخة الأزهر قبل عقود سابقة، لكن الجديد في الأمر هو أن ممثلي مختلف الطوائف الإسلامية اتفقوا في مؤتمر مكة المكرمة على قيم ثلاث محورية كبرى هي:
– بناء وحدة الجماعة المسلمة على قبول التعددية والاختلاف.
– نبذ العنف والتطرف والانغلاق.
-التفاعل الإيجابي مع الثقافات الأخرى.
لقد أدرك علماء الإسلام الذين اجتمعوا في مكة المكرمة أن تراث الاختلاف القائم بين المذاهب له سياقه التاريخي الذي لم يعد قائماً ولا مطروحاً في الوقت الراهن، لذا فإن بناء الجسور بين الطوائف الإسلامية يتطلب الممارسة التجديدية الاجتهادية التي تفصل بين ثوابت الدين ومقاصده من جهة والتجارب التاريخية للمجتمعات والثقافات الإسلامية من جهة أخرى، باعتبارها ليست ملزمة للمسلم المعاصر الذي له ثقافة مغايرة واهتمامات وتحديات مختلفة.. وهذا مربط الفرس.. فلا مناص من الإقرار أن الدين الحنيف خضع في نصف القرن الأخير لما سماه وحيد الدين خان بالتفسير السياسي للإسلام؛ أي تحويل الدين إلى أيديولوجيا سياسية، بما فتح المجال لظواهر التشدد الراديكالي والعنف المسلح والتطرف العدمي.
ما بيّنه العلماء الذين اجتمعوا في مكة المكرمة هو أن الإسلام دين اعتدال وسماحة وتسامح، ومن ثم توجّب رفض كل القراءات الأيديولوجية للنص الإسلامي، التي هي في نهاية المطاف مصدر الغلو والتطرف. لا فرق اليوم بين المذاهب السنية والشيعية والأباضية، فكل هذه المذاهب اختطفها الإسلام السياسي المتطرف إلى حد صعوبة التمييز بين الأفكار والمفاهيم من حيث منشأها الطائفي..
الأمر هنا يتعلق -في الحقيقة- بفهم واحد للدين ينتقل من مذهب لآخر ومن طائفة لأخرى. أما الجانب المتعلق بالحضارة الكونية، فنجد مادته الأساسية في الوثائق الكبرى التي صدرت عن المؤسسات الإسلامية في السنوات الأخيرة، مثل وثيقة الأخوة الإنسانية التي أصدرها البابا فرانسيس وشيخ الأزهر الإمام أحمد الطيب، ووثيقة مكة لسنة 2019، وإعلان مراكش حول حقوق الأقليات غير المسلمة الصادر عن منتدى تعزيز السلم سنة 2016.. في كل هذه الوثائق تأصيل لأفكار المواطنة الإنسانية الشاملة، والتضامن بين البشر، والحوار الإيجابي بين الديانات والحضارات المتنوعة.
خلاصة الأمر، إننا أمام نمط جديد من الخطاب الديني، له منظوره التأويلي وتطبيقاته العملية، ينطلق من مقاصد الشريعة وثوابتها، ويراعي أوضاع العصر وإكراهاته، ومن شأنه أن يحافظ للأمة على نسيجها المشترك على اختلاف مشاربها، كما يضمن للإسلام الحضور الفاعل في مرحلة خطيرة، بل خطيرة جداً يرفع فيها البعض شعار الصدام الحضاري والصراع العقدي.