يرى الناقد محمد الحرز أن الظواهر بمفهومها العام إذا ما تعلقت بالحياة والفكر والثقافة والأدب والعلم فنادراً ما تنطفئ شمعتها وتختفي بطريقة أو بأخرى، إذا دامت الحياة مستمرة فالناس في حركة دائبة على جميع الأصعدة والمستويات. وأوضح أنه لو اقتصرنا مفهوم (الظاهرة) على الشعر في ارتباطها، بشاعر محدد ذي أثر كبير في فترة من فترات تاريخية فهذا تلاشى وانتهى مع أفول حقبة التسعينيات من القرن المنصرم.
وأضاف: يمكن الإشارة إلى مفهوم النجومية بدلاً من الظاهرة لأني أراها الكلمة الأكثر مناسبة من كلمة الظاهرة، فالنجومية في المجال الشعري بالتأكيد تنطبق على نزار قباني كما تنطبق على محمود درويش والجواهري والبردوني وشوقي قبلهم، مع التفاوت في حجم النجومية وقيمتها من شاعر إلى آخر، لافتاً إلى تفتت فكرة النجومية في الفن والأدب والفكر، إذ لم يعد هناك ما نسميه بالأوحد في فنه، كون النظام الجديد للحياة أدخلنا في حالة من الغليان والسرعة التي أصبحت معها فكرة النجومية فكرة (سيالة) لا تقبل التعيين والتحديد من فرط قابلية الزمن في الحياة اليومية للسرعة الهائلة، مشيراً إلى أنه بمجرد ما تلتفت يُمنة أو يسرة، ترى أن النجم الأوحد ما قبل هذا النظام تحول إلى نجوم لا تحصى في هذا النظام الجديد من الحضارة المعاصرة.
فيما ذهب الشاعر السمّاح عبدالله إلى أن زمن الظواهر الشعرية لم ينتهِ، لكنه تبدّل مثلما تبدل كل شيء، تبدل شكل الظاهرة في الغناء فانحدرنا من محمد عبدالوهاب إلى حمّو بيكا، وفي التمثيل انحدرنا من محمود ياسين إلى محمد رمضان، كذلك في الشعر، فأصبح هشام الجخ هو الظاهرة.
وأوضح أن القضية لها بعدان؛ الأول اجتماعي متعلق بالمزاج العام للمتلقي، إذ انقرضت الطبقة المتوسطة التي كانت تُسَيِّد ذوقها في الفن والأدب، وكانت كتب طه حسين والعقاد وأترابهما تطبع أكثر من 40 طبعة للكتاب الواحد، وفرضت الطبقات الطفيلية التي طفت على سطح المجتمع ذائقتها، فظهرت أغاني المهرجانات، وكتاب مواقع التواصل الاجتماعي، وشعراء الفيسبوك، وأصبح لهم دولة وحاشية وزبائن.
والبعد السياسي متعلق برؤية النظام الحاكم للأدباء، فالنظام السياسي في حاجة لشاعر بلاط، والشاعر في حاجة للمناصب والجوائز والفلوس، فيتربع الشاعر على كرسي المجد، وبمرور الوقت يصبح نجماً وظاهرة، ويتكرر اسمه كثيراً، والشاعر الرافض يُقصى، ما يصنع منه نجماً وظاهرة، فالشاعر أمل دنقل كان ممنوعاً ولو من مجرد ذكر اسمه في الأخبار الأدبية التي تنشرها الجرائد، ودواوينه كانت تطبع في بيروت وتونس وطرابلس، ولا تطبع في مصر، وهذا التعتيم صنع منه نجومية كبيرة وأصبح ظاهرة، كذلك الشاعر أحمد فؤاد نجم الذي قضى جلّ عمره في المعتقلات، خرج منها نجماً واسماً لامعاً وظاهرة، ولعل الأنظمة لم تعد تبدي اهتماماً بالأدب والأدباء، لا هي احتضنت مادحيها فصنعت منهم نجوماً، ولا حجبت غيرهم وحولتهم إلى ظواهر شعرية.
وأضاف: لا أريد أن أناقش المستوى الفني للشاعر، فأنا أتحدث بمعزل عن التقييم الأدبي، لأنني أدرك أن فنية نزار قباني ومحمود درويش وسواهما، لا غبار عليها على الإطلاق، لكنني أقصد العوامل المساعدة التي تسند وقوف الشاعر على منصته الشعرية، فلا شك أن القضية الفلسطينية، مثلاً، ساندت كثيراً من شعراء الأرض المحتلة، إلا أن هذه العوامل المساعدة، أو تلك الوسائط، اختلفت تماماً باختلاف الذائقة التي أصبح يتحكم فيها سائقو التكاتك، ورواد الفضاء الأزرق.
فيما يؤكد الشاعر نمر سعدي أنه أصبح لزاماً عليه أن يرد على حيرة القلب في ما يفسر انهزامية الشعر وانتهاء ظواهره وغروب شمسه عندنا وفي أماكن أخرى من العالم. وعدّ الكثير من الأسئلة النازفة والمتعلقة بالمصير الحتمي للشعر خصوصاً، وللإبداع عموماً تلحّ عليه اليوم كما لم تلح بهذا الزخم وبهذه الحساسية في أي وقت مضى، كوننا نعيش على شفا مرحلة فاصلة في تاريخ البشر من انعدام مركزية الخطاب الحضاري، المتمثلة بازدهار الفنون والآداب وانتهاء زمن التفرّد والنجوميّة والأضواء، وفقدان الكلمة قيمتها العليا.
وأضاف: أحياناً أُرجع التراجع في القيمة الأدبية أو الفكرية عندنا، إلى فقر في تجاربنا الحياتية بالقياس إلى الغرب، أو إلى عقلية غير متحرّرة بعد من قيود عديدة منها الدينية والأخلاقية والاجتماعية والنفسية.
و يرى أن لدينا مواهب ربما بحجم مدهش، ولكننا لا نملك أدباً كأدب الغير ولا أدباء مكرَّسين وناجحين في الوقت نفسه كهنري ميلر وماركيز وتوماس مان وغيرهم لسبب بسيط فقط، لأنهم جعلوا من الحرية الإنسانية قيمة عليا فوق كل القيم والاعتبارات، ولأنَّ لغتهم ممتزجة إلى القرار بدماء تجاربهم الحياتية، ومتقاطعة مع خطوطها الكثيرة الطولية والعرضية كل تقاطع، ومتماهية مع ذواتهم إلى النهاية، ولا سلطة لأعراف وتابوهات أو أخلاقيات أو تقاليد مجتمع على أقلامهم، فهنالك فقط إخلاص للفن والتجربة، مشيراً إلى أنه اعتقد كما يعتقد الحالم أن الشعر ما زال الملك، أو كما قال نزار قباني يوما عنه بأنه «ملك الملكات»، «وهذا إحساس يصحبني وأحاول أن أخدع نفسي به»، ولكن الحقيقة الواقعية تقول إن الشعر لم يعد ملكاً ولا حتى صعلوكاً بل أقل من ذلك بكثير. ولم تعد هذه المهنة ترد على تقلبات روح العصر وسؤالها الوجودي الصعب.
وأضاف: قادني إحساسي بهذ الفراغ النسبي لجماليّات الحياة وروحانيتها وشعوري بضحالة تجربتها وسطحّيتها أن أطرح على الشاعر الفلسطيني الكبير سميح القاسم سؤالاً: إلى ماذا يحتاج الشاعر العربي اليوم لكي «يكون»؟ فأجاب: عليه أن تتوفر له ثلاثة أسباب أو عناصر مهمّة، العنصر الأوّل هو الاستعداد النفسي السيكولوجي الداعي الى تحفيز السليقة البدَهية لدى الشاعر للكتابة ومحاورة الأشياء، والموهبة الفطرية التي تولد معه وتنمو بالرعاية والقراءة والتثقيف وتصقلها الأسفار وهي الشيء المحتفظ بفرادة الإنسان وتميّز طابعه، والعنصر الثاني الرهبنة الشعرية أو الانقطاع والتكرّس للشعر والإخلاص له والإيمان بقيمته العليا وجعله فوق كل اعتبار آخر، والعنصر الأخير التجربة الشخصية الحياتية بكل ما فيها من تقلبّات ورغبات وبكل ما تحمل من جموح الحياة وتناقضاتها.
جاسم الصحيح: شعري طفل.. ولا أعدّ نفسي ظاهرة
أتعاطى مع وصفي بالظاهرة على أنها ضربٌ من ضروب المبالغة الكبرى الخارجة عن المعقول الشعري تماماً، وربما تكون نابعة من عاطفة خاصة لدى قائلها تجاهي، دون أن أحجر على رأي أحد. إلا أن الواقع كما أراه، هو أنّ شعري ما زال طفلاً صغيراً يفترش التراب في حضرة هذين الشاعرين المعلِّمَين الكبيرين نزار ومحمود.
ومفردة (ظاهرة شعرية) تعني الحضور المطَّرد في العصر على قمة شعرائه، دون أن يكون لديك نسخة واحدة منك، وإنما أن تكون متجدداً على طول المسيرة حتى تصبح مدرسة في أسلوبك تتعلم فيها الأجيال. وهذا ما لمسناه لدى هذين الشاعرين العملاقين، فأين أنا منهما؟
أنا وجيلي ترعرعنا في مدرسة نزار ومدرسة درويش، وإذا كان نزار، ابتكر لغة شعرية جديدة للأجيال التي جاءت بعده، فإنّ محمود درويش أغلق بوابة التاريخ الشعري وراءه، وربما نحتاج إلى قرن أو أكثر كي تُفتح هذه البوابة من جديد، وأرجو ألا ننتظر ألف عام كما حدث بعد المتنبي العظيم.
بصراحة، مجرد قراءتي للمقولة جعلتني أسبح في بُحيرة من ماء الخجل الساخن، و«رحم الله شاعراً عرف قدرَ شعره».