النّخلة ماتت، والهوى مات هو الآخر والإنسان أيضاً. مضيفاً: فليرحل الشّعر إلى حيث أراد، فهو إن مات هنا من حجر يسقط من سقف تداعى للسّقوط فله في غير هذا البيت أهل سيقولون له أهلاً وسهلاً. لا قرّاء إطلاقاً ولا عشّاق للأدب.
انتهى الأدب، انتهى الشّغف، انتهى الإنسان وانتهت الرّؤى حلوى وشوكولاتة مسمومة في كلّ واجهة معلّبة بلا علب
هنا.. الآن
أنا وقصيدتي نلهو
ولا قرّاء إطلاقاً
ولا عشّاق للأدب
فيما يرى الشاعر اليمني زين العابدين الضبيبي أن الشعراء يتكاثرون، والشعر يقل، ومن بقي من الشعراء أغلق على نفسه باب مجازه وترك الناس خلف الباب حتى جاء ما شغلهم وأخذ بيدهم إلى سوق المتعة العابرة، موضحاً أن الشاعر كان ذاكرة الزمان والناس وبهلوان مجالسهم ومصباح مشاعرهم، لافتاً إلى ما آل إليه الوضع، إذ غدا الشعر خلف بابه المغلق جهازاً حديثاً لا يعمل إلا ببصمة فردية وتحوّل إلى ذاكرة لنفسه وبهلوان برجه العاجي المعتم، فبحث كل إنسان عن جهازه الخاص ووضع بصمته الخاصة، وترك الشاعر في عزلته وحيداً.
فيما أوضح الشاعر شفيق العبادي أنه قبل أكثر من أربعين عاماً ذهب لحضور أمسية شعرية تبعد ما يزيد على عشرين كيلومتراً عن مدينته، وكان عمره وقتها ثلاثة عشر عاماً، قطع نصف المسافة مشياً على الأقدام. إذ لم تكن لهذه المغامرة أن تتم لو لم يكن للشعر سطوته في تحشيد جماهيره لتحمل أمواجُه طفلاً داعبته نسماتُه متجاهلاً كل شيء سوى شهوة الحضور لإحدى أماسيه، وقال: كرّت السبحة بعدها شاهداً على طوفان جماهيري متناغماً مع رسله حضورياً على شكل أمسيات، أو ملاحقة ما يقطف من حدائقه على هيئة إصدارات، أو ما ينبت على أرضه من نظريات وكتب نقدية، أو ما يصطخب حوله من صراعات فكرية بين مدارسه المختلفة، وكانت ضيفاً دائماً على أجندة منتدياتنا الثقافية الخاصة. إذ أصبح كل ذلك نقشاً على جذران الذاكرة، رغم كثرة المنصات التي تدفع به لصدارة المشهد كحوامل لم تتهيأ لأي محطة من محطات تاريخه الطويل. ويرى العبادي أن الشعر لم يعد ضرباً من ضروب الغيب باتكائه على الصورة المجازية المفارقة للواقع (أعذب الشعر أكذبه)، فتلك الصورة التي خدشت مراياها مخالبُ المعلوماتية بإعادة تكييف الفكر بما يتوافق ويقينيتها الواثقة والمفرطة، إضافة لمنصات التواصل الحديثة باستجلاب العالم عبر نوافذها الضيقة والتي هيأت لكثير من الأصوات المتطفلة على جوهر الشعر الحقيقي الفرصة لاستعراض عضلاتها اللغوية بعيداً عن أي مرشحات ومُصَادَّات لتنمو كأحراش أو حيطان في وجه الشعر الحقيقي، لافتاً إلى أن كل هذه العوامل أربكت المشهد حوله حتى حين.
ويؤكد المستشار الثقافي الدكتور خالد خضري أنه لا بد أن نفرق بين الشعر كثقافة وموروث حاضر في ذهنية العربي، وبين الشعر كإبداع يتجدد لدى الأجيال.
ويرى الخضري، أن الشعر الفخر والحكمة والهجاء، مما ظل متداولاً بيننا ونعيش به ولم ننفصل عنه، حتى الآن. مضيفاً: لا نزال نردد ونتغنى بأشعار جلها في الحكمة وبعضها الآخر في أغراض شعرية أخرى، على رأسها الغزل وإن تحول للعامي والنبطي الذي بات بيئة خصبة للأغنية وهو من يشكلها ويساهم في نجاحها، لافتاً لدور غناء قصائد شعرية كثيرة نرددها ونغنيها بشكل دائم لعل أهمها القصائد التي غنتها أم كلثوم، كفن خالد.
ولا يُنكر تواري الشعر الكلاسيكي عن الساحة، بدءاً من غياب الإلقاء، وتراجعه في الأماسي ، كونه لا يملك جمهوراً. وحتى التفعيلة والقصيدة الحديثة هما أيضاً غير صالحتين للإلقاء الجماهيري، ما يعني أن الشعر منذ التاريخ العربي ومنذ زمن المتنبي ظل يتشكل ويأخذ أنماطاً مختلفة لا على مستوى شكل الكتابة الشعرية فحسب، وإنما فيما يخص التلقي والاهتمام به وعشق هذا اللون من الإبداع، وأضاف، بكل الأحوال لم يعد ديوان العرب كما كان يعرف في السابق لبروز أنماط وأشكال جديدة للكتابة ليست في الإبداع فقط، وإنما مجالات إعلامية أخرى، مشيراً لما كان يمثله الشعر يوماً باعتباره وسيلة الإعلام الأهم في عصور مضت، ويرجح الخضري كفة التجدد باعتباره أمراً طبيعياً في كل مناحي الحياة.
بضاعة الفنّ النخبوي
من جانبه، يقول السمّاح عبدالله: أخشى أن أقول إننا نقدم بضاعة غير رائجة، والأمر ملحوظ بحيث لا تخطئه العين.
لقد عاصرت آخر تحقق لجماهيرية الشعر، عندما كنت أشارك أو أقدّم أمسيات معرض القاهرة الدولي للكتاب، وقتها كان جمهور الشعر يقف في الممرات بعد امتلاء القاعة تماماً، ليتابع إنشاد «نزار قباني» و«محمود درويش» و«عبد الرحمن الأبنودي»، وبعد انتهاء الأمسية، كان الجمهور يتحلّق حول هؤلاء الشعراء، يسألونهم، ويحصلون منهم على توقيعات في أوتوجرافاتهم، ويتصورون معهم.
أين ذهب هذا الجمهور؟ سأحاول الإجابة.
طوال التاريخ والشعر فن نخبوي، وجمهوره قليل، وهذا الازدحام الذي كان ملحوظاً في نهايات القرن العشرين، كان تمثيلاً حقيقياً لهذه النخبة ذات الذائقة الرفيعة، وقد حدث شيئان على التوازي؛
الشيء الأول، هو غياب الشعراء أصحاب الأسماء الجماهيرية بالموت، وقد كان مجرد حضورهم، يستدعي بالضرورة حضور ما يمثلونه في ذاكرة المتلقي من تاريخ سياسي وفني عريض، فـ«محمود درويش» لم يكن يأتي وحده، كان يحمل معه في حقيبته فلسطين، بكل ما تحمله في الوجدان العربي، وكان «نزار قباني» يحمل معه تاريخه السياسي مع الزعماء العرب الذين كان يمتدحهم ويذمهم، و«عبدالرحمن الأبنودي» كان يأتي معه «عبدالحليم حافظ» و«نجاة الصغيرة» و«محمد رشدي»، بل إن هذا الجمهور كان يطالب الشعراء بإلقاء قصائد بعينها، لها تاريخ في وجدانهم، كان الشاعر نجماً، بكل ما تحمله الكلمة من دلالات، وكان الجمهور يقبل على أشعاره ويقتني دواوينه، ويتتبع أخباره، لكن هؤلاء الشعراء، وأشباههم الذين فقدناهم بالموت، لم نستطع أن نعوضهم في جماهيريتهم، فالشعراء الآنيون، على جودة شعرهم، ليس لهم مثل هذه العوامل المساعدة، ولا ذلك التاريخ السياسي والعاطفي الذي امتلكه الشعراء السابقون، فالعشاق كانوا يذهبون للشاعر «عبدالرحمن الأبنودي» الذي غنوا له في لحظاتهم العاطفية من قبل (عيون القلب سهرانة ما بتنامشي)، وكانوا يذهبون للشاعر «نزار قباني» ويرددون معه (حتى فساتيني التي أهملتها)، وكان الثوار يذهبون للشاعر «محمود درويش» لكي يتذكروا معه (سجل أنا عربي.. ورقم بطاقتي خمسون ألف).
الشيء الثاني، هو غياب هذه النخبة ذات الذائقة الرفيعة التي حلت محلها، بزوال الطبقة الوسطى، جماهيرية أخرى، ذائقتها ليست رفيعة، وتاريخها العاطفي والسياسي مصنوع في ظل الأزمات الكبرى، وفقدان القيم الكبرى التي تربينا عليها، فقد سقطت مقولة القومية العربية بحرب الخليج، سياسياً، وبعد أن كنا نغني (الأرض بتتكلم عربي) أصبحنا نغني (الواحد حيشق هدومه ويطفش ع الأسفلت) وسقطت مقولة الحب البريء بأغاني المهرجات، عاطفياً، والعاشق الذي كان يقول لحبيبته (واحشني وانت قصاد عيني.. وشاغلني وانت بعيد)، أصبح يقول لها (تعالييلي يا حلوة.. لحسن اغزك بالمطوة).
الأمر صار مربكاً جداً، وجمهور الشعر، حتى في أمسيات معرض الكتاب، أصبح يعد على الأصابع، ودور النشر أصبحت لا تطبع الدواوين الشعرية، لأنها لا توزع.
ربما لا تكون إجابتي نهائية، لكنني من واقع عملي في الشأن الثقافي العام، رصدت هذه الارتباكة، ولأنني متفائل بطبعي، فأنا في انتظار انصلاح مثل هذه الأحوال، وأتمنى ألا يطول انتظارنا.