ومع كل إعلان للجهات الرقابية في كشفها عن قضايا فساد مالي أو إداري تقفز إلى الأذهان أسئلة حائرة:
• كيف يطل الفساد برأسه وعنقه؟
• لماذا تظهر من وقت لآخر الأيدي الملوثة بالفساد العابثة بمقدرات الوطن؟
• هل الفساد سلوك حديث؟ أم سلوك عانت منه حضارات الأمم قديماً وحديثاً بمظاهر عديدة لتفشيه وممارسته؟
• كيف حال الضمير (الغائب) عند هؤلاء؟
الرشوة في الصدارة
كشف موقع هيئة الرقابة ومكافحة الفساد، أن عدد البلاغات الواردة للهيئة 43,182 بلاغاً خلال 2022م؛ منها 23,046 بلاغاً مشمولاً باختصاصات الهيئة (تشكل 53%) يباشرها 26 فرعاً للهيئة بالمملكة، وتراجع عدد البلاغات الذي سجل 67,446 بلاغاً في 2021م. وبحسب رصد «عكاظ»، ووفق تصنيف البلاغات المشمولة باختصاصات الهيئة حسب جرائم الوظيفة العامة أو المال العام؛ شكّلت جريمة الرشوة نسبة 63.2%، استغلال النفوذ الوظيفي 12.6%، التزوير 3.9%، تبديد المال العام 1.3%، وشكلت جريمة الإثراء غير المشروع 6.4%، وجريمة التفريط في المال العام 0.9%، في حين شكّل استغلال العقود 3.7%، وشكّل الاختلاس 2.4%، واستعمال النفوذ 3.1%، وغسل الأموال 1.7%، واحتلت جريمة إساءة المعاملة أو الإكراه باسم الوظيفة النسبة الأقل بـ0.8%.
وتؤكد هيئة الرقابة ومكافحة الفساد أن زيادة أعداد البلاغات تأتي امتداداً لثقة المواطن والمقيم في الجهود التي تبذلها الهيئة لحماية النزاهة وتعزيز مبدأ الشفافية ومكافحة الفساد المالي والإداري، واستشعارهما المسؤولية في الإبلاغ عن أي مخالفات أو تجاوزات.
البيانات تتوالى
من وقت لآخر، تعلن هيئة الرقابة ومكافحة الفساد، أنها ألقت القبض على متورطين في قضايا فساد مالي أو إداري واستغلال الوظيفة، وتُوجّه اتهامات في جرائم تتعلق بالرشوة والاختلاس وتبديد المال العام وإساءة استعمال السلطة. وتوضح الهيئة في بياناتها المتلاحقة أنَّ من بين من يتم القبض عليهم في تُهم الفساد مواطنين ومقيمين ورجال أعمال وموظفين ومسؤولين في عدة قطاعات ووزارات.
تترجم هيئة الرقابة ومكافحة الفساد، من حين لآخر جهودها في مكافحة الفساد على أرض الواقع وتضرب بيد من حديد لحماية النزاهة وحماية المال العام. ويجمع قانونيون لـ«عكاظ»، على أن مكافحة الفساد المالي والإداري باتت سمة بارزة وهدفاً تعمل الجهات المختصة على تطبيقه وتنفيذه. وقالوا: إن حملات التحقيق والمتابعة والتحري ستظل تلاحق المفسدين والخارجين عن القانون في أي قطاع وعلى أي مرتبة بلا استثناء. وأوضحوا أن بيانات هيئة الرقابة ومكافحة الفساد، من حين لآخر بالقبض على متورطين في قضايا فساد مالي وإداري، واستغلال الأموال في جرائم الوظيفة العامة ما بين الرشوة والاختلاس، وغسل الأموال، وتبديد المال العام، خطوة تعكس الجهود المتواصلة للدولة في مكافحة الفساد، مرحبين بتلك الجهود كخطوة مهمة لمحاصرة الفساد وحماية النزاهة.
جرائم الوظيفة 29 نوعاً
رئيس النيابة العامة في جدة سابقاً الشيخ عبدالله محمد القرني، يقول: إن جهود الدولة في مكافحة الفساد وحماية النزاهة محل الترحيب والتقدير من قطاعات المجتمع كافة، وبيّن أن العقوبة الصادرة من المحاكم أسرع أداة للتصدي للفساد، وطالب بتعزيز الدور الإعلامي في الرقابة على أداء المؤسسات، وأكد لا حصانة لأي فاسد مهما كان موقعه، وأن السلطات المختصة ستمضي في محاربة الفساد ومحاسبة الفاسدين وتقديمهم للعدالة وحفظ المال العام.
أما المحامي صالح مسفر الغامدي فقال: إن دوائر جرائم الوظيفة العامة في النيابة تباشر وتحقق في ما يقارب 29 نوعاً من جرائم الوظيفة؛ سواء كان الموظف على رأس العمل أو تقاعد أو فصل أو استقال، إذ لا تسقط الجنايات بالتقادم، وأوضح أن أبرز الأوصاف الجرمية الخاصة بجرائم الوظيفة والمدونة في النيابة تشمل جرائم التزوير، الرشوة، التزييف، الاختلاس، تبديد المال العام أو التفريط به، الإخلال بواجبات الوظيفة نتيجة رجاء أو توصية أو وساطة، التصرف بغير وجه شرعي في أموال الدولة، استغلال نفوذ الوظيفة العامة؛ سوء الاستعمال الإداري، استغلال العقود، إساءة استعمال السلطة، ولكل جريمة نظام يتم الحكم من خلاله على المتهم حال إدانته.
مراجعات شاملة للرقابة الداخلية
يقول المحامي ماجد قاروب: إن ما تم إعلانه أخيراً من إعلان القبض على بعض المتهمين في جرائم الفساد، محل التقدير والامتنان من قطاعات المجتمع كافة، فالبيان مع وضعه في الإطار العام لنشاط هيئة الرقابة ومكافحة الفساد، أثبت صحة وبُعد نظر الدولة في دعم وتعزيز الجهاز الوطني الأمني الحقوقي في دمج ثلاثة قطاعات رقابية بما يمكّنها من تحقيق رسالة مكافحة الفساد التي أثبتت وجود تجاوزات في بعض القطاعات، ما يدعونا إلى المطالبة بإجراء مراجعات شاملة لأجهزة الرقابة والتفتيش والتأديب الداخلي، خصوصاً إذا ما وضعنا القوانين واللوائح والتنظيمات للتعامل مع المال العام؛ التي تهيئ لمناخ جديد يقضي على تعارض المصالح، ويفرض سلوكيات وممارسات جديدة على القطاعين العام والخاص، وتمنع الواسطة والرشوة والمحسوبية واستغلال النفوذ والتربُّح من الوظيفة، وتحجب كل أنواع المحاباة وتسريب المعلومات وعدم الحياد الذي يمارس لمصلحة الأقارب والأصهار والأنساب؛ وفق ما ورد في لائحة تعارض المصالح في المشتريات والمنافسات الحكومية، وكذلك لائحة السلوكيات المتطابقتين مع مثيلاتهما في نظام الخدمة المدنية والقطاع المالي والمصرفي، وفقاً للائحة التي أصدرها البنك المركزي، وسيؤدي ذلك إلى تحقيق مكانة جديدة لرجل القانون والمحاسبة في الإدارات الحكومية والقطاع الخاص، ومكانة متميزة للمحامين المتخصصين وفق خبرات نوعية واحترافية.
كيّ عروق الفاسدين
أوضح المحامي الدكتور ذياب المخلفي، أن حماية المال العام ومكافحة الفساد، جهد وطني متكامل يشارك فيه الجميع، انطلاقاً من أن الفساد خطر عام تتعين مواجهته، مشدداً على أن الشفافية التي تتعامل بها هيئة مكافحة الفساد تسهم في رفع الأداء والجودة.
وكشف المحامي أحمد الراشد، أن العقوبات التي تطال الفاسدين حال إدانتهم أمام القضاء تختلف من متهم لآخر باختلاف الوقائع التي ارتكبها والوصف الجرمي للواقعة وجسامة الجريمة ودور كل متهم فيها، وهو ما تقرره المحكمة المختصة، وتراوح العقوبات ما بين السجن والغرامات المالية وإعادة الأموال التي تم الحصول عليها خلال الجريمة المرتكبة.
وقال أستاذ السياسة الشرعية والأنظمة بجامعة الملك عبدالعزيز الخبير بمجمع الفقه الإسلامي الدولي الدكتور حسن محمد سفر، إن من الضوابط الشرعية لمكافحة الفساد المالي قاعدة «لا ضرر ولا ضرار» وقاعدة «درء المفاسد أولى من جلب المصالح». وقال: إن الكشف عن لصوص المال العام ومحاكمة الفاسدين خطوة نحو اجتثاث الفساد؛ الذي يعطل تنمية المجتمع لتحقيق الصالح العام لمجتمعنا؛ الذي يستطيع بهذا التطهير أن ينمو نماءً ناصعاً ونظيفاً، ولا مكان فيه للفساد والمحاباة والإثراء الفاحش، لافتاً إلى أهمية كيّ عروق الفساد والمفسدين.
تفاعل إيجابي مع «نزاهة»
دعت المحامية روان عسيري، المجتمع إلى التفاعل الإيجابي مع هيئة الرقابة ومكافحة الفساد، ليكون كل فرد عيناً راصدة تجاه أي مخالفات أو شبهات فساد قد تقع. وقالت: إن الخطوات المتتالية في محاربة الفساد تعد صمام أمان للاقتصاد الوطني. ولفتت إلى أن مكافحة الفساد وتتبع الفاسدين نهج قويم للدولة التي سنّت أنظمة لمحاربتها، وأوجدت عقوبات توازي الجرم.
من جانبها، أثنت المحامية منال الحارثي، على جهود مكافحة الفساد بالتحرّي والبحث عن أوجه الفساد المالي والإداري في عقود الأشغال العامة وعقود التشغيل والصيانة وغيرها من العقود المتعلقة بالشأن العام ومصالح المواطنين في الجهات المشمولة باختصاصات الهيئة، واتخاذ الإجراءات النظامية اللازمة في شأن أي عقد يتبين أنه ينطوي على فساد أو أنه أبرم أو يجري تنفيذه بالمخالفة لأحكام النظام. وقالت إن لهيئة مكافحة الفساد والرقابة جهوداً بارزة في ضبط القضايا والتحقيق وتقديم المتهمين للقضاء، وهناك أحكام كثيرة صدرت في قضايا فساد إداري ومالي.
«أعشاب» الفساد الضارة
استشاري طب الأسرة والمجتمع الدكتور أحمد عبدالمنعم، قال: في تحليل علمي سيسولوجي لأسباب انتشار الفساد الإداري إن علماء الأخلاق يتفقون في تناولهم لمشكلة الفساد بروح تستهدف وصف الظاهرة وقياسها وتحليلها، إذ وصف علماء في الأخلاق، ومنهم رونالد وريت وإدجار سمبكنز، انتشار الفساد في الدول النامية فى كتابهما (الفساد في البلدان النامية) وحاولا تعريف الفساد فشبهاه بنوع من الشجيرات أو الأعشاب الضارة التى تنمو فى التربة الصالحة فتعوق نمو النباتات النافعة. ويشيران إلى أن أي فعل فاسد، يعد فاسداً إذا حكم عليه المجتمع بأنه كذلك، وأن السبب الرئيسي لانتشار الفساد يتمثل فى ضعف الوازع الديني والأخلاقي والشراهة في حب المال وتدنى القيم الأخلاقية، فضلاً عن تحقيق مصالح خاصة ومنافع شخصية من خلال مخالفة القواعد والإجراءات.
أما الأخصائي النفسي الدكتور عادل الغامدي، فقال: الفساد مختلف الأسباب من موقع لآخر، ولكن نتائجه السلبية تكاد تكون متوافقة ومتشابهة، كونها أفعالاً مجرّمةً وسلوكاً منحرفاً، وتؤدي لمكاسب غير مشروعة وانتفاع شخصي على حساب المصلحة العامة. وأكد على ضرورة تحصين المجتمع ضد الفساد بالقيم الدينية والأخلاقية والتربوية، وتوجيه المواطن والمقيم نحو التحلي بالسلوك واحترام النصوص الشرعية والنظامية. ولفت إلى أن انتشار الفساد يضعف مؤسسات المجتمع، والقيم النبيلة والإنسانية والأخلاقية التي جاءت بها الشريعة، ويقود إلى هدر كبير للموارد وسرقتها، ويعمق الفجوة بين أفراد المجتمع.
هروب رؤوس الأموال
في دراسة علمية لأستاذ القانون المساعد بجامعة شقراء الدكتورة شريهان ممدوح حسن أحمد، حول جهود مكافحة الفساد الإداري والمالي في المملكة، أظهرت النتائج أن الفساد الإداري ينتج عن سوء استغلال السلطة العامة؛ بهدف الحصول على مكاسب خاصة بصورة غير مشروعة، أما الفساد المالي فهو ينتج عن الإخلال بالمصالح المالية والواجبات العامة، وأيضاً نتيجة استغلال المال العام بهدف الحصول على مكاسب شخصية. وأظهرت نتائج الدراسة أن من آثار الفساد أنه يؤدي إلى ضعف الاستثمار وهروب رؤوس الأموال خارج البلد، في الوقت الذي كان من المفروض استغلال هذه الأموال في إقامة مشاريع اقتصادية تنموية تخدم المواطنين من خلال توفير فرص العمل، كما يؤدي الفساد إلى هجرة أصحاب الكفاءات والعقول الاقتصادية خارج البلاد بسبب المحسوبية، ما قد يؤدي إلى ضعف إحساس المواطن بالمواطنة والانتماء.
ونصحت الدراسة بتفعيل جانب التوعية والتعريف بظاهرة الفساد وما لها من آثار سلبية غاية في الخطورة على المجتمع ككل، ودعت إلى العمل على التنشئة الاجتماعية والسلوكية الجيدة القائمة على الأخلاق الحميدة التي تنشئ جيلاً قوياً ولديه القدرة على حمل الرسالة.
ودعت الباحثة إلى تعزيز آليات التعاون الدولي والمحلي بين الأجهزة الأمنية والقضائية لمحاصرة ظاهرة الفساد الإداري والمالي والقضاء عليها وعلى مرتكبيها، إضافة إلى رفع كفاءة الأجهزة المعنية بمكافحة الفساد؛ سواء أكانت إدارية أو مالية، بتدعيمها بعناصر بشرية ذات كفاءة، وكذا بالوسائل المادية المناسبة، والاستفادة من الأساليب التكنولوجية الحديثة في هذا المجال.
وخلصت إلى ضرورة نشر التوعية الإعلامية بمخاطر الفساد الإداري والمالي، وعقد الندوات والمؤتمرات والدراسات التي تتناول هذه الظاهرة وكيفية الحماية منها والقضاء عليها.