هذه القناعة ربما توصلت إليها بعد سنوات طويلة في التدريس، اكتسبت من خلالها العديد من التجارب، واطمأننت في أحايين كثيرة إلى أنّ هذه القناعات ليس دافعها الأكبر العاطفة، بقدر ما كانت الغلبة للأنفع -كما أظنّ- والأكثر فائدة وثباتاً -بحسب ما أرى-!
استقرّ في أذهان كثير من المعلمين والطلاب أنّ التقويم المستمرّ لا يكون إلاّ للمواد التي لا قيمة لها ولا أهميّة، والدليل أنّنا في التعليم العام تراجعنا عن خطوات سابقة اتُخذت في تقويم مواد اللغة العربية في المرحلتين الابتدائية والمتوسطة من التقويم المستمر إلى اختبارين تحريريين في كلّ فصل دراسي للمادة!
ولأنني إنسان تقلقه الأسئلة، وتحفزه، في الوقت ذاته، على أن يكون القادم أفضل ممّا ذهب، فقد تساءلت بعد إنهاء مقرر هذه المادة: لماذا لم تُوزّع مفرداتها على ثلاث مراحل في الثانوية العامة ابتداءً بالصف الأول ثانوي وانتهاءً بالصف الثالث ثانوي؟
طرحت هذا التساؤل بعد تجربة جميلة مررت بها في تدريس مادة (الدراسات الأدبية) وخرجت بقناعة مفادها أنّ إقرار هذه المادة على طلاب المرحلة الثانوية عمل مهمّ، وفيه فوائد كثيرة في تنمية العديد من المهارات التي يحتاجها طلاب المرحلة الثانوية في المستقبل وفي الحياة بشكل عام.
الموضوعات التي قُدّمت في هذا الكتاب ثريّة، ومتعوب عليها من قبل باحثين ومختصين أدركوا جيداً أنّ الأدب ليس معرفة فقط، بل هو معرفة ومتعة في الوقت ذاته، ولعلّ هذه الموضوعات المختصرة كانت كافية لخلق انطباعات جيدة عن الأدب العربي بشكل عام، والأدب السعودي بشكل خاصّ، وعن التعريف بتفاصيل مهمّة في كتابة الشعر والنثر!
هناك انطباعات عامة حاولت رصدها بعفوية من طلاب كثيرين في فصول ثلاثة تجاوز عددهم الـ100 طالب، كانت لهم نظرات ثاقبة في المادة والفصل الدراسي الثالث الذي درسوا فيه هذه المادة، إضافة إلى انطباعات عامة عن الأدب؛ أكان شعراً أم قصّة أم رواية!
حاولت تبسيط المسألة ابتداءً، والإيحاء للطلاب بأنّ التعامل مع هذه المادة لا يتجاوز الأدب، والأدب في جزئه الأهمّ متعة، لكنه في الوقت ذاته يساعدنا على تقوية الذاكرة، وتحسين النظر للحياة، والناس، ويمنح الأشياء المهملة الكثير من الاهتمام والعناية!
في تدريس الشعر كنت أميل في هذه المادة إلى الربط بين القصيدة المكتوبة بالفصحى والقصيدة التي كان لها حضور في الغناء العربي، فيما كنت أربط في القصّة والرواية بين النصّ المكتوب وما حُوّل إلى فيلم سينمائي، أو مسلسل، صحيح أنها قليلة، لكنها شواهد على أنّ الأدب بشكل عام يعيش مع الناس، وينتقل إليهم بوسائل متعددة ومختلفة.
في تدريس المادة استعنت بشبكات التواصل الاجتماعي التي ربطت بين النصّ الإبداعي وإعادة تدويره بأكثر من وسيلة وطريقة. كانت النتيجة أنّ الأدب بشكل عام تعبير صادق عن مزاج الإنسان في عسره ويسره، ولحظات الإنسان بشكل عام في فرحه وشقائه، لكنّ الوحيد القادر على تحويل هذه المشاعر والأحاسيس إلى أدب هو المبدع؛ سواء أكان شاعراً أم سارداً!
على سبيل المثال، لا يمكن أن نتجاوز القصائد العربية الفصيحة التي غناها الفنانون لأحمد شوقي والأمير عبدالله الفيصل وإبراهيم ناجي وغازي القصيبي وبشارة الخوري ومحمود درويش وعلي محمود طه وإيليا أبو ماضي وبدر شاكر السياب ونزار قباني، ولا قصائد المتنبي وابن زريق وامرؤ القيس وأبو نواس التي أعاد لها الفنانون الحياة والوهج من خلال الغناء.
أما الرواية فقد كنت ألفتُ انتباه الطلاب إلى أنّ هناك العديد من الأعمال السردية التي حُوّلت إلى أفلام سينمائية أو مسلسلات، وكان لهذا الانتقال أثر كبير في اهتمام الناس، ولفت الانتباه إلى أنّ أدبنا العربي يمكن مشاهدته، والبحث عنه، واستشهدت في هذا السياق بأعمال نجيب محفوظ، وطه حسين ويوسف السباعي وإحسان عبدالقدوس في الرواية العربية الحديثة التي حُوّلت العديد من أعمالهم إلى أفلام أو مسلسلات ساعدت في انتشار الأدب وإشهاره!
لن أكون مثالياً وأقول إنّ رؤية الطلاب لمادة الدراسات الأدبية وتعاملهم معها كان مثاليّا؛ لكنّ هناك نظرات ومواقف وأحاديث عامة وجانبيّة لفتت انتباهي، ورأيت من الواجب عليّ نقلها كما سمعتها، ربما كان لها نصيب من الحظ في أن تصل لمسؤول معني، أو جهة تملك قراراً في هذا، أو رؤية تختلف عن رؤى المعنيين بالأمر فيكون لها الحضور والقبول!
رأى بعض الطلاب أنّ التقويم المستمرّ لهذه المادة يُضعف الاهتمام بها، ويعطي انطباعاً سلبياً عنها، إنْ على مستوى القيمة أو الأهميّة!
فيما رأى بعض الطلاب أنّ اختيار الفصل الثالث في السنة الثالثة من المرحلة الثانوية لتدريس هذه المادة يصرف الأنظار عنها، لأسباب منها: كثرة الاختبارات المقرّرة على طلاب الصف الثالث الثانوي في هذا الفصل، مثل اختبار القدرات واختبار التحصيلي، إضافة إلى الضغوط النفسيّة التي تلازم الطالب في هذا الفصل وهذه السنة، مما يكون له أثر كبير في تشتيت الطالب، وصرفه عن هذه المادة وإن كانت ممتعة أو مهمّة!
هناك من لفتت انتباهه التفاصيل الكثيرة في هذه المادة، والفترة الزمنية التي توقّف عندها الأدب العربي بنهاية العصر العباسي في هذه المادة والانتقال إلى الأدب العربي الحديث، مّا استدعى السؤال عن الأدب العربي بعد نهاية العصر العباسي وقبل بداية العصر الحديث، وكلنا نعلم أنّ هذه الفترة الزمنيّة أُطلق عليها (تجوّزاً) فترة الانحطاط، وإنْ كان هذا الانحطاط سياسياً وليس أدبياً بالمجمل كما رأى كثير من الباحثين والمهتمين!
النماذج التي كانت شواهد مباشرة على الأدب العربي في الشعر والنثر نظر إليها بعض الطلاب على أنها نماذج انتقائية في زمن الانفتاح، ومتكلّفة في زمن تعدد المشارب، واختلاف الأذواق، والأفهام.
الخلاصة التي من أجلها كتبتُ هذا المقال أنّ تدريس الأدب في التعليم العام ضرورة، ويجب أن يُعطى أولويّة، وأن يُقدّم بشكل سلس وممتع، وأن نبعده عن التصورات الذهنية التي خلّفتها لنا معارك لم تنصف الأدب، ولم تنصف كتّابه ومدارسه بصورة جيّدة.
فالأدب (كما أظنّ) يجب أن يُعامل على أنّه إبداع نختلف عليه ونتّفق، وفي اختلافنا عليه فسحة ومندوحة.