تنشق آدم عبير حواء بعمق ولم يطلقه زفيراً بل تركه بين حنايا ضلوعه ليورثه لأبنائه من بعده.
تعددت الروايات وتصادمت عن يوم الحب وأساسه فلا داعي لاستدعائها والحكم عليها فهي روايات مضطربة فلا نستطيع الحكم بتحريمها وتجريم فاعلها، فتقيّد «الحب» في هذا المقام، إنما هو تضييق واسع مثل ما فعل البعض في زمن غفلة مضى قبع رهيناً عند هذه «المحطة»، حاملاً معوله يهدم مقاعد العشاق، ويقتلع زهور الحبّ الحمراء، ويصب على المحبين حمماً من خُطب جوفاء. لا طاقة به إلى أن ينظر للحب بوصفه طاقة تحليق في نوافذ عديدة، وليس نافذة واحدة، ولفتح عينيه في ملكوته الواسع، عندها لن يكون في قلبه مكان لغير الحب سيكون رفيقاً بالعصاة، عطوفاً على الجناة، تسيل دمعته شفقة عليهم، ولن يعلو صوته تشنيعاً وتعنيفاً لهم. فالحب يصنع المعجزات، فزمن تهمة اللون الأحمر في يوم ١٤ فبراير ومحاربته ومطاردة عشاقه والتضييق عليهم وربطه بالعقيدة والدين ذهب إلى غير رجعة وطواه النسيان وعبرت من فوقه رؤية طموحة هي خير وأبقى لأنها تنفع الناس وتعمر الأرض، فالحب المحتفى به في مثل هذا اليوم هو جوهر لعاطفة إنسانية جياشة لا تقف أمام عظمتها وأثرها وردة حمراء.
الحبّ أمره عجيب فهو يسري في مسارب الرّوح الشفيفة، يمسك بأعنّتها، ويقود خطاها في مسالك الحنين، والشّوق المتلاف، تتقافز في دواخلها نزعة الإفصاح عمّا فاض في حناياها من شعور يبحث عن لسان مُفصح، وإعلان يبث الفرحة في ربوع القلوب، وأفياء النفوس الظمأى، الحب تراث إنساني عبرت عنه العديد من المرويات الثقافية منذ إنسان النياندريال مروراً بتطور البشرية فهناك المعلقات السبع على الكعبة المشرفة وهناك أسواق الشعر التي لا تبدأ إلا بذكر العشق والتغزل في المرأة، وقد وقر فقهاء الإسلام الحب وقدروه مثل الجاحظ والتوحيدي وابن حزم وغيرهم وأسفارهم حاضرة تشهد عليهم.
وللحب مواثيق وعهود تزجر النفس، وتمسك الروح عن مغامرة الافتضاح، فإذا الصراع في النفس يحتدم، وإذا المقاومة تخفت حيناً وتعلو في أخرى، فمن الحب ما قتل، فالكتمان يذهب من المحبّين مذاهب شتى، وطرائق قدداً، فثمة من يطوي على الهوى نفساً، ومنهم من يصرح حتى ولو لقي حتفه، ومنهم من ذاب تولّهاً، وقضى صبابة، فكان الموت طريق الخلاص من تلك الأوصاب، لذا قيل في الأثر من عشق فعف فمات مات شهيداً.
الحب يغير حتى من كيمياء الروح، ويعيد ترتيب روح المحب وفق مزاجه الخاص، وتعمد إلى الفيزياء من حولها فتجعل منافذ الخروج هي مداخله للمحب حين يبشّر بالوصل، ويمنّى باللقاء الموعود.
إنّه الحب الفيّاض، الذي يسع النّاس ألفة، ويغمرهم وداً، ويحيل قفر أرواحهم مروجاً خضراً يانعات بغيته الجمال، ورسالته الإيلاف، وسبيله الإيناع في كل قلب بما يصلح شائكه، وينير بصيرته، ويهذّب طبائعه.
ننادي بها رسالة للحياة دحراً للعبوس القمطرير، وإرساءً لمبدأ الطمأنينة والأمان، فمن أحب وبودل بالحبّ أمن وآمن غيره، فما خسر الأولون بالحب، وإنما ضاعوا بسبب الكراهية والحقد. ادخلوا إلى حرم الحب بكل طاقة الحياة، واستقبلوه بكل بشاشة النفس، فما دام الموت محتوماً علينا فليكن في سبيل الحب، وفي طريقه الجميل.
أيامنا موحشة موحش فيها الحزن حين يكون يتيم أفراحنا وقاسية هي الأفراح التى لا تدوم، سنعلي من راية هذا الحب ما حيينا، وسنذكره في معرض الاعتبار وتقويم الفؤاد على درب المحبة المطلقة، ففيه يكمن سر الحياة، وجوهر الخلود الأبدي، محبة تريك في كل شيء جمالاً يقودك إلى التسليم المطلق. محبة تسيل الدمع رفقاً، وتذيب القلب وجداً بشغف فوّار، ونبض وثّاب حتى لو نأى المحبوب أو هجّر فالألم المتولد عن الحب ونار الهجر يبقى خيراً من افتقاد الحب.
إنها رحلة بلا نهاية، ومقصد بلا إدراك، وسعي متصل ما دام الحياة موطن الكدح والعنت، والسعي الضارب وتداً في القلب ولكن لا محيد عن الرحلة، ولا عنها مفر، فليستعد كل قلب لعبورها بما أوتي من طاقة الاحتمال، ومحركات الصبر، «بالحب وحده أنت غالي علي، بالحب وحده أنت ضي عنيا».