فاختلاف الآراء في المسألة الواحدة إنما هو رحمة للعباد وسعة لهم كما قال ابن تيمية، وأن الأمر المختلف عليه بين العلماء لا ينبغي لأحد أن يحمل الناس عليه،
وكان الأمام أحمد يفتي في المسألة ثم يدل السائل على من يفتيه بخلافها ويجيز له الأخذ بأيهما شاء.
في نهاية شهر رمضان الفارط أفتى فضيلة المفتي -حفظه الله- بضرورة إخراج زكاة الفطر من قوت أهل البلد تمر وشعير وحب وأرز، وخالفه في ذلك فضيلة الشيخ عبدالله المطلق عضو هيئة كبار العلماء وقال بجواز إخراجها نقودًا، ولكل حجته وأدلته، وللمسلم يتخير في الأخذ بأيهما شاء.
ظاهرة الاختلاف ظاهرة حميدة موجودة منذ عهد الصحابة، بل وفي عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام دون أن ينكر أحد على أحد.
وتعود ظاهرة الاختلاف الحميدة إلى الواجهة اليوم، فقد أفتى فضيلة المفتي الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ أن من أراد أن يضحي فلا يأخذ شيئًا من شعره ولا من أظفاره ولا من بشرته، حتى يضحي.
وخالفه في هذا الأمر الشيخ عبدالله المطلق، الذي أكد أن إمساك المضحّي عن حلق شعره وتقليم أظافره في عشر ذي الحجة أمر مستحب وليس واجبًا.
ولكل منهما -حفظهما الله- أدلته وحججه المؤيدة لمسألته، وللمسلم أن يأخذ بما يشاء وفق مصلحته.
وقد أصبح الناس منقسمين في هذه المسألة، متعصبين لرأيهم، فيقوم من أراد أن يضحي بإطلاق لحيته وعدم قص أظافره معتقدًا أن ما يفعله من تمام الأضحية وقبولها، ويعيب على من يفعل غير ذلك ويقول له إن أضحيته غير مقبولة، وهذا الفعل لا علاقة له بفعل الأضحية. فالأضحية سنّة والتشبه بالمُحرِم شيء آخر، تقول عائشة كنت أفتل قلائد هدى رسول الله بيدي ثم يبعث بها وما يمسك عن شيء مما يمسك عنه المحرم حتى ينحر هديه، وفي هذا دلالة أنه لا حرمة ولا كراهة في الحلق أو تقليم الأظافر في حق مريد الأضحية.
ويعلق الشافعي بقوله البعث بالهدى أكثر من إرادة التضحية، فدل على أنه لا يحرم ذلك، ويقول أبو حنيفة إن المضحي لا يحرم عليه الوطء ولا اللباس فلا يكره له حلق الشعر وتقليم الأظافر.
نحن الآن أمامنا سعة في هذه المسألة وأقوال لعلماء أفاضل، فلا ننكر على بعضنا اختلافنا.
الأضحية من شعائر الإسلام بفعله عليه الصلاة والسلام، فكان يذبح بعد صلاة الفجر والعيد، ويقول إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي ثم نرجع فننحر، فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا، ومن ذبح قبل فإنما هو لحم قدمه لأهله ليس له من النسك في شيء.
وقد روى جابر أنه شهد مع النبي عليه الصلاة والسلام الأضحى بالمصلى، فلما قضى خطبته نزل عن منبره فأتى بكبش فذبحه بيده، وقال بسم الله والله أكبر هذا عني وعن من لم يضحِ من أمتي.
وقد سمي اليوم العاشر من ذي الحجة بيوم النحر لأن المسلمين يتقربون فيه إلى الله بنحر بهيمة الأنعام، فالحجاج ينحرون هديهم، والمسلمون ينحرون أضاحيهم، يقول الحق «ولكل أمة جعلنا منسكًا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام»، ويقول سبحانه وتعالى «والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليها صواف» ويقول جل جلاله «لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم وبشر المحسنين»، فليس المقصود ذبحها وإنما لذكره عند ذبحها بالتهليل والتكبير، وهي سنّة والسنّة يثاب فاعلها ولا يأثم تاركها، فلو كانت واجبة لأنكر على من لم يضحِ مع قدرته عليها.
روى الشعبي عن أبي شريحة الغفاري قال أدركت أبا بكر وعمر لا يضحيان السنة والسنتين كراهية أن يقتدى بهما وهما لا يتركان واجباً، فدل فعلهما على عدم وجوب الأضحية. وفي مصنف عبدالرزاق عن أبي مسعود الأنصاري قوله إني لأدع الأضحى وإني لموسر مخافة أن يرى أحد جيراني أنها حتم عليه.
كما ثبت أن بعض الصحابة كانوا لا يضحون مع يسارهم وقدرتهم على التضحية ولم ينكر عليهم رسول الله ذلك.
واليوم جعلها البعض من الواجبات في سباق محموم لفعلها مما يؤدي إلى ارتفاع
أسعارها وتراكم اللحوم حتى تفسد، غير من يذبحها في منزله ويرمي بالبقايا في الشوارع وبجوار الحاويات المفتوحة في مخالفة صريحة للأنظمة والقوانين.
ومن شروط المضحي أن يكون مسلماً، له تمام الملك على ما يضحى به، ويكون مستطيعاً قادراً على ثمنها، بالغاً عاقلاً رشيداً مقيماً، فلا تشرع في حق المسافر.
يمكن أن يضحي المسلم حتى آخر ذي الحجة، لحديث سهل بن حنيف: كان المسلمون يشتري أحدهم الأضحية فيسمنها فيذبحها بعد الأضحى آخر ذي الحجة، ذكرها أبو داود في مراسيله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله الضحايا إلى آخر الشهر لمن أراد أن يستأني ذلك أو إلى هلال المحرم.
وفي هذا تخفيف على الناس، كما يجوز إطعام فقراء أهل الذمة من لحوم الأضاحي ويحتفظ المضحي لنفسه بثلث الأضحية ويهدي الثلث الآخر لمن يحب.
كل عام والجميع بخير وعافية.