سبق أن تناولنا سيرة الدكتورة التركي في مقال موسع سابق، لذا سنخصص هذه المادة للحديث عن الدكتورة البسام. والحقيقة أن أسرة البسام القصيمية التميمية المعروفة على نطاق واسع، والمنتشرة على امتداد السعودية ودول الخليج العربية، بل وأيضاً في بلاد الرافدين وبلاد الشام ومصر والهند (بسبب هجراتهم وتجارتهم ونجاحهم)، أنجبت أعلاماً كثراً في مختلف المجالات فبرز منهم دبلوماسيون وعسكريون واقتصاديون ومهندسون ومحامون وأكاديميون وأطباء ورجال أعمال ورجال فقه وشريعة ورجال دولة وغيرهم. هذا ناهيك عن حقيقة أخرى هي أنها أنجبت أيضاً ثلة من النساء الرائدات والمبدعات ممن برزن على الصعيد الوطني والإقليمي والدولي وواكبن كافة مراحل تطور وبناء الوطن وشاركن فيه بشكل فاعل ومؤثر كشريكات أساسيات في عملية التنمية والتطور. وإبتسام البسام ليست سوى واحدة فقط من هؤلاء، إذ إن من يتصفح تاريخ آل البسام وينقب فيه (كما فعل زميلنا الأستاذ عبدالمحسن العساف في دراسته المعنونة بـ «أسرة البسام: عراقة وتمام» المنشورة في مدونته)، سيجد أسماء كثيرة بارزة رجالاً ونساء، بل سيجد فيها أكثر من مائة من الرجال والنساء الحاصلين على درجة الدكتوراه.
نساء آل البسام
من نساء آل البسام على سبيل المثال، إضافة إلى د. إبتسام البسام، كل من: المحسنة المعروفة موضي عبدالله الحمد البسام الملقبة بـ «امرأة بألف رجل»، والمحسنة نورة عبدالله المحمد البسام، والمحسنة لولوة حمد فهد المحمد الحمد البسام (زوجة التاجر صالح العبدالله البسام مؤسس شماغ البسام)، والمحسنة حصة محمد السليمان البسام (صاحبة الهبات والأوقاف وزوجة الوجيه محمد العبدالله الجميح)، ود. إلهام عبدالرحمن سليمان البسام أستاذة الأدب المقارن بجامعة الكويت، ود. مضاوي سليمان البسام أستاذة العقيدة بجامعة الملك سعود، ود. حياة محمد الحمد البسام أستاذة التاريخ بجامعة الملك سعود، ود. منيرة محمد الحمد البسام أستاذة المناهج وطرق التدريس بجامعة الملك سعود، ود. فريدة عبدالله البسام أستاذة التخطيط التربوي بجامعة الملك عبدالعزيز، ود. هند عبدالرحمن الأحمد البسام أستاذة تقنية المعلومات بجامعة الملك سعود، والمربية المؤثرة لولوة عبدالرحمن عبدالعزيز المحمد البسام، والمربية والمحاضرة موضي عبدالله العبدالرحمن البسام، والتربوية القديرة وفاء عبدالعزيز البسام، والمربية إبتسام الشيخ عبدالله البسام، وغيرهن.
ولدت الدكتورة «إبتسام عبدالرحمن محمد سليمان عبدالله إبراهيم عبدالرحمن الحمد البسام» في أواخر الأربعينات الميلادية في عنيزة، مسقط رأس والدها وأجدادها، التي قالت عنها في حوار في برنامج «وينك»، الذي يبث على قناة روتانا خليجية: «منحتني عنيزة الكثير.. منحتني الجذور التي لا بدّ منها لأي إنسان حتى ينطلق في فضاءات الثقافة المختلفة من حوله». وبها تلقت تعليمها الأولي قبل أن يقودها إصرارها وطموحها ورغبتها في التغيير وعشقها للارتقاء بذاتها إلى الاغتراب عن وطنها والسفر إلى القاهرة من أجل التحصيل الجامعي. حدث هذا في زمن كان من الصعب لفتاة سعودية نجدية أن تفكر مجرد تفكير في مواصلة دراستها بالخارج، بل كان أيضاً في زمن يصعب الاتصال والتواصل مع الأهل. غير أن إبتسام لم تستسلم، وأرادت أن تكسر الحواجز وتقدم نفسها قدوة لبنات جنسها.
ولعل ما ساعدها في ذلك ليس فقط ما هو معروف عن آل البسام من قديم الزمان لجهة قبول التحديات وخوض المغامرات، وإنما أيضاً انفتاح والديها وإيمانهما القوي بالعلم والتعليم العصري. فوالدها هو الدبلوماسي البارز الأسبق عبدالرحمن محمد السليمان البسام (جده الأكبر حمد بن إبراهيم البسام هو مؤسس عائلة البسام في عنيزة)، الذي أجاد التحدث بثماني لغات وبدأ حياته مستشاراً لشؤون جامعة الدول العربية بالسفارة السعودية في القاهرة، ثم انتقل إلى كراتشي سفيراً لبلاده في باكستان، ثم تمّ تعيينه أول سفير سعودي في تونس، فوكيلاً لوزارة الخارجية السعودية بمقرها في جدة، ثم تولى قيادة السفارة السعودية في أثينا التي توفي فيها وهو على رأس عمله. أما والدتها فهي سيدة جليلة تنتمي إلى أسرة «أبو الفتوح» المصرية الكريمة المعروفة التي أمّم قادة انقلاب 23 يوليو 1952 ممتلكاتها بعد الإطاحة بالملكية المصرية. أما العامل المساعد الآخر الذي رسخ في داخلها فكرة مواصلة تعليمها الجامعي دون تردد، هو أنها عاشت متنقلة مع والدها السفير في محطاته الدبلوماسية العديدة فتشربت ثقافات تلك البلدان ورأت بأم عينها كيف يتنافس مواطنوها على الارتقاء بذواتهم من خلال التحصيل. وبسبب ابتعادها عن الوطن لسنوات طويلة، صارت لا تتحدث اللهجة القصيمية وتغلب على حديثها اللهجة المصرية.
الماجستير والدكتوراه من أمريكا
وهكذا شدت الرحال إلى مصر للالتحاق بجامعة عين شمس التي منحتها ليسانس الآداب في اللغة الإنجليزية، لكن تلك الدرجة العلمية لم تكن لتشبع طموحاتها، فسافرت إلى الولايات المتحدة مبتعثة من قبل وزارة المعارف السعودية لنيل درجتي الماجستير والدكتوراه، اللتين حصلت عليهما في الأدب الإنجليزي من جامعة ميتشيغان في سن صغيرة. وقد روت كيف أن وصولها إلى الولايات المتحدة صادف إجازة عيد الميلاد التي تقفل فيها المحال وينصرف فيها الغربيون إلى الاحتفال في أجواء عائلية دافئة، بينما كانت هي تقبع وحيدة في سكن الجامعة الداخلي دون أهل أو أصدقاء أو معارف.
بعد نيلها الدكتوراه أصرت أن تعود إلى وطنها لخدمته، على الرغم مما كانت تعرفه عن صعوبات توظيف النساء في بلادها آنذاك. وكان ذلك ثمرة من ثمار الغرس الطيب الذي زرعه والدها بداخلها، وهو الحرص على عدم نسيان الوطن باعتباره مصدر كل الخير، وضرورة خدمته في أي مجال. وهكذا وصلت إلى جدة وتولت مسؤوليات إدارة كلية التربية للبنات هناك بدلاً من مديرتها الباكستانية الجنسية مع تولي رئاسة قسم اللغة الإنجليزية بالكلية. ومن جدة انتقلت إلى الرياض لتصبح في أواخر السبعينات أول عميدة سعودية لكلية التربية للبنات في المملكة، التي كانت وقتذاك تتبع الرئاسة العامة لتعليم البنات وليس وزارة المعارف التي ابتعثتها. وعن تجربتها في هذه الوظيفة التي خلفت فيها السيدة السودانية الدكتورة سعاد الفاتح، تحدثت في حوارها التلفزيوني المشار إليه آنفاً عن الصعوبات التي واجهتها، فقالت ما مفاده، إنها كانت المرة الأولى التي تتولى فيها سعودية عمادة كلية، ما جعل تعامل زملائها الرجال معها حذراً وصعباً وبه شيء من الغيرة الممزوجة بالخوف على مراكزهم، بدليل أن أحدهم قال ممتعضاً: «نشبت في حلقنا هالسعودية»، بمعنى أنه من الصعب التخلص منها، بينما لو كانت غير سعودية لسهل التخلص منها بإنهاء عقد عملها. كما قالت، إنها تمتعت بعلاقات حميمة مع طالباتها، خصوصاً أنها كانت في أعمارهن، وأنها كانت متشددة في عملها كي تحصل مواطناتها الدارسات على تعليم ليس أقل مما تعلمته هي.
تحذيرها من استخدام الموسيقى
وأتت البسام في الحوار نفسه على ذكر واقعة تلقيها خطاب إنذار وتحذير من الرئاسة العامة للبنات بسبب إقدامها على استخدام الموسيقى وعزف السلام الملكي أثناء تخريج أول دفعة من الطالبات الحاصلات على درجة الماجستير في الآداب.
ويبدو أنها استاءت من تلك الطريقة في التعامل معها، فطلبت من الرئاسة العامة لتعليم البنات أن تمنحها تفرغاً علمياً كي تقوم بأبحاث تسمح لها بالترقي الأكاديمي، وهو ما تمّ رفضه بحجة عدم وجود سابقة لتفريغ النساء السعوديات. وهنا قررت أن تتجاوز مرجعيتها الوظيفية وتكتب خطاباً مباشراً لخادم الحرمين الشريفين الراحل الملك فهد بن عبدالعزيز، الذي استجاب لطلبها فوراً وابتعثها مجدداً إلى الولايات المتحدة لمدة عام.
وأثناء وجودها هناك، سمعت عن قرب افتتاح أكاديمية تعليمية سعودية في لندن بدلاً من مدرسة سعودية خاصة كان قد تمّ إغلاقها، فتطوعت مقدمة خبرتها التربوية في عملية التأسيس. وهكذا سافرت إلى بريطانيا وحضرت كافة الاجتماعات التمهيدية قبل أن يتم اختيارها لرئاسة الأكاديمية بموافقة السفير السعودي الأسبق في بريطانيا الشيخ ناصر المنقور. تقول البسام، إن الكثيرين من زملائها ومعارفها استغربوا أنها قبلت رئاسة مدرسة من بعد أن كانت عميدة لكلية جامعية، فكان ردها أنها تعشق التحدي وأن قيادتها للأكاديمية فيها نوع من التحدي، وتبديداً للفكرة السائدة آنذاك لدى المجتمع البريطاني والغربي من أن المرأة السعودية منغلقة وغير قادرة على تولي مراكز قيادية في مجال التعليم (تتذكر البسام كيف أن لورداً بريطانياً دخل عليها مكتبها بالأكاديمية ذات مرة قائلاً: «هذه أول مرة في حياتي أشاهد امرأة سعودية تدير مؤسسة بها رجال بريطانيون»).
العمل في اليونسكو
نفت أن يكون القصيبي هو من رشحها للعمل لدى منظمة اليونسكو بباريس تخلصاً منها، موضحة أنها شعرت، بعد 10 سنوات من العمل في الأكاديمية، أنها قدمت كل ما لديها ومن الأفضل الانتقال إلى موقع آخر مختلف لخدمة وطنها، فأفصحت لوزير التربية والتعليم السعودي الأسبق محمد أحمد الرشيد، حينما قابلته بلندن في التسعينات عن رغبتها في العمل لدى منظمة اليونسكو. رحب الرشيد بطلبها وأخبرها أن كل الشروط تنطبق عليها، خصوصاً أنها تتحدث العربية والإنجليزية والفرنسية، ويبقى فقط الحصول على موافقة المقام السامي الذي لم يمانع.
وهكذا انتقلت البسام عام 1995 إلى باريس، لتصبح أول موظفة خليجية بمنظمة اليونسكو، ولتتدرج في مناصبها خلال السنوات الـ11 التي قضتها في دهاليزها حتى وصلت إلى منصب مستشارة لنائب المدير العام، ومسؤولة عن اليوم العالمي للمعلم. وبصفتها تلك، زارت مختلف دول العالم ضمن وفود المنظمة الرسمية، وأضافت إلى علمها وخبرتها الشيء الكثير، لكنها في الوقت نفسه واجهت منافسة ضارية من البعض المتطلع للحلول مكانها، خصوصاً أن وجودها في اليونسكو كامرأة سعودية مسلمة كان مبعث استغراب عند الفرنسيين والفرانكفونيين.
تقول البسام، إنها تعلمت من دراستها ثم عملها في الغرب كيف أن الشعوب هناك تتنافس في ما بينها لخدمة بلدانها دون منّة أو انتظار مكافأة، وأنها تعلمت من عملها في اليونسكو التواضع والتعامل مع الجميع بمساواة.
وأخيراً، فإن مما يعرف عنها أنها فضلت العمل على الزواج وإنجاب الأطفال، خصوصاً أن تنقلها الدائم من مكان إلى آخر لم يكن يسمح لها بتأسيس أسرة ورعايتها كما يجب، لكنها تعتز بأن كل من درستهم هم بمثابة أبناء وبنات لها، وهم بدورهم يعتبرونها أماً لهم. وقد روت حادثة بهذا الخصوص مفادها، أنها كانت مسافرة جواً من بريطانيا إلى الولايات المتحدة ذات مرة، فإذا بقائد الطائرة من خريجي أكاديمية الملك فهد بلندن، وبعد أن تعرف عليها عرّفها إلى الركاب قائلاً: «هذه أمي الثانية».
أكاديمية الملك فهد بلندن
ومما قالته البسام عن عملها في الأكاديمية من 1985 إلى 1995، الذي لعبت فيه دوراً كبيراً في التأسيس وتنظيم اللوائح والإشراف على كل ما يخصها، إنها بدأت بخمسين طالباً ارتفع عددهم تدريجياً إلى خمسمائة قبل أن يصل إلى ألف طالب بعد الغزو العراقي للكويت، حينما صدرت أوامر باستيعاب الطلبة الكويتيين الموجودين مع أسرهم في بريطانيا، حيث عملت البسام مع زملائها على تحويل غرف الأكاديمية إلى قاعات للتدريس وافتتاح قسم خاص أطلق عليه «القسم الكويتي». وتذكرت زيارة الملك سلمان للأكاديمية حينما كان أميراً للرياض، فقالت، إنه هو أول من زار الأكاديمية من رجالات الأسرة المالكة، وإنها كانت المرة الأولى التي تقابله فيها وجهاً لوجه، إذ سبق لها أن حادثته هاتفياً أثناء عملها الأكاديمي في الرياض، ووجهها حينذاك بتطبيق اللوائح الأكاديمية، خصوصاً تلك المتعلقة بتعيين الخريجات الأوائل معيدات، دون خشية من اعتراض رجال الرئاسة العامة لتعليم البنات.
في عام 1992، انتهت مهمات السفير المنقور في بريطانيا وخلفه في منصبه الدكتور غازي القصيبي، فبعث المنقور بخطاب شكر للبسام للمرة الأولى على تعاونها في تأسيس وإدارة أكاديمية الملك فهد بلندن. تقول البسام، إنها تأثرت بالخطاب إلى درجة أنها بكت. وحول ما أشيع عن تأزم العلاقة بينها وبين السفير القصيبي، نفت ذلك جملة وتفصيلاً، مؤكدة أنها اعتبرت القصيبي أخاً أكبر لها وتعاونت معه بل حرصت أن يكون له مكتب في الأكاديمية باعتباره رئيس مجلس أمنائها، ومضيفة، أن ما سمي بالخلافات لم يكن سوى اختلافات في وجهات النظر حول بعض الأمور التنظيمية للأكاديمية.