يجهل أو يتناسى بعضنا الأصل الإنساني الأول (هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة) فيقع بنشوة غير محمودة في خيلاء، دافعها أمجاد سلف، أو مكاسب خلف، فيبالغ في الانتماء لمكوّنه الضيّق، حد إقصاء الغير واستبعاده، أو النفور منه، أو التعالي عليه، وربما ذهب لاستغلال أخيه في الإنسانية والدين والوطن عبر تطويعه لخدمته، بحكم ما يراه ضعفاً في شخصيته، لكونه ينتمي لحرفة، أو مهنة، أو مجتمع أقلّي.
لا ينكر فلاسفة، وعلماء، ومثقفون أن اعتداد الإنسان بنفسه، أو دينه، أو مذهبه، أو قبيلته، أو أسرته، أو عائلته (خصيصة من خصائص النفس البشرية) ولا تثريب في ذلك، إلا أن الاعتداد (توسط) بين المفاخرة وبين الاستكانة، واستعراض المرء محاسن أهله ومجتمعه مقبول، ومبرر، وليس من التعصب المذموم، وإنما يغدو التعصب مذموماً، ومُحرّماً، ومُجرّماً إذا تلبسته النبرة الشيطانية (أنا خيرٌ منه، خلقتني من نارٍ وخلقته من طين).
كان للعرب مفاخرها، شأن بقية القبائل والأمم، وحفل الشِّعر العربي بالفخار، والاعتزاز بالأرومة، وروي عن النبي عليه السلام، أنه اعتدّ بنفسه (أنا سيّد ولد آدم ولا فخر) و(أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبدالمطلب)، ولكن تواضعه عليه الصلاة والسلام لكل كائن، ولُطفه، يؤكدان أن جودة وأصالة المحتد لا تزيد صاحبها إلا خُلقاً رفيعاً، فلا يتعالى على الناس، ولا يتعصّب ولا يتعنصر.
التعصب ممتد في حياتنا من المذهب، إلى الملعب، وربما لجهل البعض بخطورة التعصب يقع في العنصرية، فيحتقر الآخر ويتطاول عليه، وينظر له نظرة استعلاء، باعتبار أنه هو ممتاز، وغيره عايدي.
يمكن أن تجعل من الانتماء لمكوّن ما معياراً أخلاقياً، تضبط به أقوالك وأفعالك وتعاملاتك، كأن تقول: أنا ابن أصول لا يجوز أن أكذب، أو أغش، أو أعتدي، أو أظلم، ولا يليق بي أن أقع في سفاسف الأمور، من تشويه الآخر مُختلفاً أو مُخالفاً.
ولا أرى أن الإسلام يحرّم الشعور بتميّز ما، ولا يُدِين القانون توظيف النسب لخدمة الأخلاق، شرط عدم التمييز أو الفرز، إلا أننا ونحن نطمح لحالة سلام وتعايش، في حاجة لتكاتف الجهود والرؤى، لتعزيز قوة المجتمعات والأوطان.
هناك بناءات كامنة في ذواتنا لا ننتبه أحياناً لها، لكنها سرعان ما تشمخ وتطل برأسها، في لحظة غضب، أو انفعال، أو حسد، أو منافسة، ولم ينتبه كثير من الشرفاء عبر التاريخ، أن النظرة الدونية لغيرهم، حبكت لهم أحبولات، وأوقعتهم من علياء، فللآخرين أسلحتهم الأشدّ فتكاً من سلاحك، وكثير من الأدواء استعصت على الدواء، والتعصب يذكي نيران الغيرة، ويدفع الغيور لإلحاق الأذى بغيره، وأذية الخلق لا تصدر عن أصل أصيل وفرع نبيل.
للاعتداد جانب إيجابي، يربطك بجذورك، المتينة، وأرضيتك الصلبة، وله جانب سلبي، يتحول لجناية، حين ننظر للآخرين على أنهم أدنى، وأقلّ، وأخس، ما يؤجج الصراع معهم حد التحامل، بدوافع ودواعٍ غير موضوعية، والأدهى يتمثل في استحضارهم بالسوء، للتشفي والانتقام (وما يعزب عن ربك مثقال ذرة).
لا تحتاج لإثبات نفسك، أن تحط من مكانة ومهارة غيرك، ولا ينشغل بمقارنة إمكاناته بالآخرين إلا فاشل ومحبط، وعاجز عن الارتقاء بجهوده الذاتية، فيتعصب، ويقع في عنصرية، والعنصرية اضطهاد إنسان لأخيه الإنسان المساوي له في الخلق، والنظير له في الحقوق والواجبات.
الواثق بنفسه وقدراته، والطيب الساس، يجمع نوراً على نور، ويحب الخير للغير، ولا تتلبسه مشاعر التميز، خصوصاً وهو يرى ويسمع كم انتقمت الحياة من الممتاز، فأحرمته من مزايا وخصال العايدي، ولربما دفّعت الأيام ممتازاً الثمن، فجعلته يعمل تحت إدارة من يراه (عايدي) وكم صفّت الأنساب حساباتها بطريقتها، فغدت ابنة أو أخت أو حفيدة ممتاز زوجة وحليلة من يصنفه عايدياً.
من حقك ترى نفسك ممتازاً، لكن غيرك ليس (عايدياً) بل ربما يكون له وجه ممتاز أو أكثر، وربما يكون ممتازاً أكثر منك، بوعيه وأخلاقه، وخدمة وطنه، وعنايته بنفسه وأهله، (بس أنت ما تشوف)، لأن التعصب أسدل على عينيك غشاوة، والرفيع حقاً يرى نفسه عايدياً، ويرى الآخرين ممتازين، لذا يكسب ودّ الكل، فتنبسط أمامه مساحات للتواصل والتفاعل والتسامح، بعيداً عن أدران الحقد، وتصفية الحسابات، بذريعة أنه الممتاز والآخر عايدي.