أعرِّف نفسي لكم. أنا ابن الشاعر الذي كرس حياته ليخيط جُرح كلماته ويصنع منها ثياباً مثل ماركة مسجلة، أنا ابنه الذي يعبر الجسر نحو مدينته الشعرية العالية أصغي إلى أصوات قصائده سريعة التردد، أنا حبله المعقود حول صخرة أيامه. أتأرجح في الهواء، لكني لا أسقط ولا تتقطع خيوطي، يده الحانية تمسك الصخرة عن السقوط.
لستُ شاعراً أنا مجرد قارئ، أتكلم وأكتب بمنظوري الخاص، لستُ أتوقع الكثير، فالحياة خلقت للاختلاف ونحن لسنا نسخاً مكررة، فالتجارب هي من تحدد منظورنا وطريقة تفكيرنا في الحياة.
قاموس لغتي ليس فيه الكثير من الكلمات، لكنني أستطيع كتابة الكلمات التي تؤدي نهايتها إلى فهم القارئ واستمتاعه بها، قاموسي ليس بالكثير، فأضطر أن استوحي كلماتي من السماء طالباً الإلهام من الإله، فتتكاثف الغيوم، ثم تبدأ الأمطار تهطل بشدة، تسبقها رياح الله الغاضبة تماماً مثل التي نزلت على قوم عاد.
هكذا هي مشاعري الآن، واقفةً لوحدها منتظرة في محطة مهجورة، ممسكةً بمظلتها بينما هي تُمطر!.
(2)
يقولُ عني الكثيرون بأني بلا مشاعر
هل أنا حقاً هكذا؟
أم لفرط المسبحةِ دور في هذا الأمر، عندما وقعت من يدي كشلالات (نياجارا) بعد أن كنت مُمسكاً بها بشدة!
حاولت الغوص داخل أعماقي لمعرفة السبب، لكني واجهت حواجز منعتني من تجاوز الإشارة الخضراء!
ركبت صهوة جوادي كي أقفز فوق تلك الحواجز. لكنني لم أستطع. كنت عالقاً بين أصوات رأسي وتلك الصور التي ترسلها مخيلتي وذاكرتي.
عُدت أدراجي لأبحث عن طرقٍ أخرى، فوجدتها كلها بحاجةٍ إلى إعادة ترميم.
كل المؤشرات تقول إن هنالك هدراً في المشاعر، لكني فقط لم أرد تصديق ذلك.
كالأرق يشغل ذهني كل ليلةٍ وجميع محاولاتي في الوصول كانت تبوء بالفشل، وها هي تُرسم الهالات أسفل عيني.
لكن سُرعان ما داهمني حدسي، صرخ بوجهي توقف عن التقدم! فأنت على مشارف خطوةٍ من السقوط!
عُد من حيث أتيت فأنت غير مرحبٍ بك هنا.
فاستدرت نحو الاتجاه المعاكس كجثةٍ واقعة في حظر التجولِ محمولة في بقايا رجل، ولا شكل يشبهها غير شكل التمزقِ!
استسلمت في النهاية لنفسي، كبّلتُ قيدي بنفسي، كنتُ جسداً متواجداً بذات المكان، لكن مشاعري بقيتْ أسيرة.
(3)
شمعتي تبكي، لم يعد فتيلها يتحمل لهيب شوقها للوصول إلى القاع، لم يعد هناك الكثير من الوقت، الظلام أوشك أن يُصبح حالكاً، الليل يمر مُسرعاً وكأن هنالك أحداً يلاحقه، النجوم تراقب المشهد من بعيد، الوصول بات وشيكاً وكأن مقدراً لها أن تصبح علاقتها مثل علاقة يوسف بالبئر، حتى بدأت تتساءل: هل لنا ميعادٌ في الصباح؟ تلاشت كلماتها وغصّت حنجرتها بجمرة العقبة التي يلقيها المسلمون في موسم الحج، بعد أن سمعت صوت خطوات الموت قادمة.
(4)تائهٌ يبحث عن خريطة العودة للعالم الذي شاخ وكثُرت تجاعيده، ظل واقفاً متأملاً النجمة التي لم تحتضنها السماء بعد، يحيكُ نسيج ليله بيده كي يضع ماضيها في برواز الذكريات، يأتي هدوء الليل ليُثبتَ أنّ الضجة كانت بداخله وليست في من حوله، جاءت العاصفة كي توقِظَ الكهرباء المنقطعة لسنين، لكن دون جدوى، كمصباح أضاء الطريق بأكمله ثم سقط في حفرةِ واقعه، بعد طول محاولات من الركضِ داخل عجلة تسير نحو القاع، ظنّ العابرونَ بأنه لا يستطيع وحده أن يُنقذ نفسه، دفن نفسه في أقرب حفرةٍ في صحراء ذاكِرته كيّ يتسنى لهُ مُعاودة الكرّة مرّةً أُخرى في صباح اليوم التالي، بعدما تمّ تشخيصه بالزهايمر.