يعود تاريخ هذا الجهاز في المملكة العربية السعودية إلى عهد المغفور له الملك عبدالعزيز، لكنه كان يعرف آنذاك باسم «الضيافة الملكية»، وكان يتبع وزارة المالية ووزيرها عبدالله السليمان الحمدان (1884 ــ 1965)، حيث كان أول رئيس له هو «إبراهيم بن جميعة» من أهل حائل ومن رجالات الملك عبدالعزيز الأوفياء. وفي أواخر عهد الملك المؤسس أسندت رئاسته إلى المرحوم فؤاد إسماعيل شاكر (1905 ــ 1973) الذي كان يعمل وقتها رئيساً لتحرير جريدة «أم القرى» الرسمية، وذلك طبقاً لما أورده مترجم الملك محمد المانع في كتابه «توحيد المملكة العربية السعودية». وهكذا كان فؤاد شاكر مكلفاً باستقبال ضيوف الدولة القادمين من الخارج والاهتمام بشؤونهم، بينما كان المرحوم عبدالسلام غالي مكلفاً برعاية شؤونهم في مكة المكرمة حصرياً، وكان لهذا الغرض متواجداً بصفة دائمة بفندق «أجياد مصر» أمام مبنى وزارة المالية بالعاصمة المقدسة.
المراسم الملكية
في عام 1955 خلال عهد الملك سعود، أطلق اسم «التشريفات الملكية» على الجهاز لأول مرة، قبل أن يتغير الاسم في عهد الملك فيصل إلى «المراسم الملكية». وتقول الأدبيات السعودية ذات الصلة إن الذين تولوا رئاسة الجهاز منذ عهد الملك سعود إلى اليوم هم (بحسب ترتيبهم الزمني): صالح إسلام، اللواء علي جميل، عبدالمنعم عقيل، فؤاد ناظر، محمد السليمان العنبر، عبدالمنعم عقيل (للمرة الثانية)، السيد أحمد عبدالوهاب، منصور الخريجي، محمد آل الشيخ، محمد الطبيشي، خالد صالح العباد.
كانت هذه مقدمة للحديث عن سيرة «السيد أحمد عبدالوهاب» الذي صادف يوم أمس ذكرى رحيله الأولى، والذي سجل اسمه كأول شخصية تتولى قيادة الجهاز في عهد الفيصل بعد تغيير اسمه إلى «المراسم الملكية» سنة 1969، ومن ثمّ واصل عمله في عهد الملك خالد والسنوات الأولى من عهد الملك فهد، ناهيك عن أنه ساهم في تطوير الجهاز ووضع له نظاماً دقيقاً متفقاً مع قواعد وأصول البروتوكولات المعمول بها في دول العالم من جهة، ومتفقاً مع القيم والتقاليد السعودية من جهة أخرى.
كتب عنه أحمد بن محمد الصائغ، الذي عمل تحت أمرته بالمراسم الملكية لمدة ستة عشر عاماً، في صحيفة «الجزيرة» السعودية (27/3/2013) فوصفه بأنه «كان ضمن كوكبة من الرجال الذين ساهموا في نهضة الوطن». وفي المقال نفسه، نقل الصائغ عن الدكتور زهير كتبي قوله في الرجل أنه «كان يتمتع بمزايا وصفات رجل الدولة الدبلوماسي، ولا غرو أن يكون كذلك، فهو من مدرسة الفيصل بن عبدالعزيز التي برز منها الرجال الأفذاذ الذين حملوا ما أنيط بهم من مسؤوليات بكل جدارة واقتدار، وكانوا في مستوى ثقة القيادة».
وكان الدكتور كتبي قد نشر مقالاً في صحيفة الجزيرة بتاريخ الحادي والعشرين من مارس عام 2013 عن السيد أحمد وصفه فيه بالموسوعة السياسية النادرة والمتميزة وبـ «فيلسوف دبلوماسية المراسم والتشريفات في العالم العربي»، وقال عنه إنه تمكن في عمله ومسؤولياته أن يمزج ما بين الفلسفة والسياسة والتاريخ والجغرافيا والفكر السياسي لضيوف المملكة من قادة الدول الزائرين وطباعهم وعاداتهم وفق منهج معلوماتي متسلسل ومنظم ومتصف بالدقة الشديدة وجاهز للاستخدام وقت الحاجة.
وكتب عنه أحمد باديب في يوليو 2010 في العدد 33 من مجلة «جدة» الصادرة عن أمانة محافظة جدة قائلاً: «عرفته منذ أكثر من أربعين سنة، فكان إذا حدثته في السياسة وجدت سياسيّاً عريقاً يعرف بطائن الأمور، وإذا حدثته في الأدب وجدت أديباً راقياً يحفظ من الأدب عيونه بما يسحرك. وإذا حدثته كصحفي وجدت عنده ما لا تجد عند أهل الصحافة، فهو مطلع على كل جوانبها ويعرف أغلب أهلها، أما إذا حدثته عن الذوق فلن تعرف شخصاً أكثر منه ذوقاً ورقيّاً في حديثه ومظهره ومجلسه».
أما صديقنا حسين شبكشي فقد كتب عنه بصحيفة «عكاظ» (4/4/2022) قائلاً: «كان الرجل معروفاً بلباقة لسانه وحسن هندامه وأناقة تصرفاته. حظي بالثقة الهائلة من القيادة عبر مراحلها المختلفة، وكان ولاؤه أسطوريّاً ووفاؤه غير عادي، بالإضافة إلى ذلك كان مخزناً للذكريات والأسرار عن فترات عمله التي رفض أن يدوّنها في كتاب أو يسجّلها في حلقات تلفزيونية حرصاً منه على مبدأ أن تلك الأمور كلها تقع من ضمن الأسرار التي أقسم على الحفاظ عليها في الدولة».
نائب الحرم
ولد «أحمد محمد عبدالوهاب نائب الحرم»، وهذا اسمه الكامل، بمكة المكرمة سنة 1931 واقترن اسمه عند مواطنيه المكيين بلقب «السيد» نسبة إلى السادة من آل البيت من ذوي الحسب والعلم والفضل والتاريخ العريق المتوارث كابراً عن كابر.
كان ميلاده لأب هو «السيد محمد عبدالوهاب» الذي قدمت عائلته إلى مكة في بداية القرن الحادي عشر لتولي عمارة ما تهدم من الكعبة سنة 1040 للهجرة، والذي نشأ في رحاب العاصمة المقدسة ودرس على يد علماء المسجد الحرام قبل أن يذهب إلى إسطنبول لدراسة القانون. كما مثل الحجاز لاحقاً في مجلس المبعوثان العثماني. وفي عهد الملك عبدالعزيز -رحمه الله- انتخب رئيساً لأول مجلس بلدي بمكة في العهد السعودي، ثم تسلم إدارة الأوقاف، وحصل على عضوية مجلس الشورى، وشارك في عضوية عدد من المجالس واللجان المكلفة بالعديد من المهام الخدمية، محافظاً في الوقت نفسه على لقب «نائب الحرم».
وحول لقب «نائب الحرم» الذي التصق باسم عائلته أوضح عبدالله فدعق بجريدة الوطن السعودية (9/4/2022) أن أول من حمل هذا اللقب، الذي يضع على كاهل حامله مهمة الإشراف على الأئمة والمؤذنين وجميع العاملين في الحرم المكي، هو قاضي المدينة السيد محمد الأنفوري، ثم ظلت عائلته تتوارث المنصب. وحينما تولى الملك عبدالعزيز أمر الحجاز سنة 1924 جعل للمسجد الحرام إدارة خاصة وأيد بقاء العائلة على خدمة الحرم واستمرار حملها للقب «نائب الحرم».
وكانت للسيد محمد عبدالوهاب في تلك الفترة صلة وثيقة بنائب الملك في الحجاز سمو الأمير فيصل بن عبدالعزيز (الملك فيما بعد)، كما كان من ضمن الكوكبة من مواطني مملكة الحجاز ومملكة نجد الذين طالبوا الملك المؤسس عبدالعزيز آل سعود -رحمه الله- أن يضمهما لتصبحا المملكة العربية السعودية. ويذكر أن الأديب المصري إبراهيم عبدالقادر المازني أشار إليه في كتاب له صدر قبل نصف قرن فقال إنه تعلّم التركية وأجادها وكذلك الفرنسية، وأضاف أنه: «أبدع محدث وأظرف رجل، فيه رفق ورحمة ودماثة ومروءة، وليس في الحجاز من لا يأنس بمجلسه ويشتهي حديثه، وهو على ظرفه وفكاهته كيس وقور ذو رأي، أنضجته السن والتجارب والفكر، وسددته المعرفة والإطلاع».
توفي السيد محمد عبدالوهاب نائب الحرم في عام 1918، تاركاً خلفه زوجته السيدة «نفيسة بنت محمد بن عثمان نائب الحرم»، وابنه الوحيد السيد أحمد الذي كان وقتذاك لا يتجاوز الثانية عشرة من عمره، وبسبب علاقته القوية بالفيصل، فإن الأخير، وفي مبادرة وفاء غير مستغربة منه، احتضن الأم المترملة والطفل اليتيم، وأحاطهما بعنايته في وسط قصره، وجعل من الأم مسؤولة عن قصره، وتكفل برعاية ابنها وتعليمه في المدرسة النموذجية الأميرية بالطائف مع أبنائه الأمراء مع معاملته كواحد منهم، بل ابتعثه أيضاً إلى مصر للدراسة في كلية فيكتوريا الشهيرة، حيث زامل فيها العاهل الأردني الراحل الملك حسين وكمال أدهم والفنان عمر الشريف وغيرهما.
وبعد أن تخرج وعاد إلى الحجاز، ظل السيد أحمد قريباً من الفيصل وأسرته على مدى عقود من الزمن. وفي عام 1962 أصدر الفيصل بصفته وليّاً للعهد ورئيساً لمجلس الوزراء أمراً بتعيين «السيد أحمد عبدالوهاب نائب الحرم» رئيساً لتشريفات سمو ولي العهد، وظل ممسكاً بهذه المسؤولية إلى حين مبايعة الفيصل ملكاً على البلاد سنة 1964، حيث تمّ تعيينه رئيساً للتشريفات الملكية، وبصفته هذه رافق الفيصل في معظم زياراته الرسمية المكثفة إلى دول العالم شرقاً وغرباً، كما رافق الملكين خالد وفهد في زياراتهما الخارجية إلى أن جاء عام 1985 الذي طلب فيه الرجل من خادم الحرمين الشريفين الراحل الملك فهد بن عبدالعزيز إعفاءه، فاستجاب جلالته لطلبه، وأصدر أمراً ملكياً بتاريخ 20/12/1405 للهجرة بإعفائه من منصبه، ثم قام جلالته بتكريمه في بادرة وفاء معهودة عن قادة المملكة لرجال الدولة المخلصين الأوفياء.
قريب من الفيصل
مما لا شك فيه أن وجوده لسنوات طويلة بالقرب من الفيصل، أميراً ثم ملكاً، أكسبه العديد من الصفات ومده بالكثير من الخبرات والمهارات التي أعانته في حياته العملية ومهامه الرسمية. ومن هنا قيل إنه خريج مدرسة الفيصل في الحكمة والدهاء وحسن التدبير والتفكير وسرعة البديهة وفن الإنصات والمخاطبة.
وفي مقال كتبه صاحب السمو الملكي الأمير تركي الفيصل بن عبدالعزيز في جريدة الشرق الأوسط (2/4/2022) ينعى فيه السيد أحمد الذي تربى في بيت والده فعرفه عن كثب، قال: «عرفته منذ نشأتي، أخاً وصديقاً. ظريف المعشر، كريم الخلق، وفيَّ القول، صاحب طرفة. مشرعاً باب داره لكل طارق وماداً سفرة غدائه لكل زائر». وأضاف سموه أن السيد أحمد «في شبابه كان يرافق والدتي في سفرها ثم تولى الإشراف على متابعة دراسة أختي الصغرى مني في سويسرا. وعندما عين رئيساً للمراسم الملكية استحضر جميع المعلومات عن هذه المهنة من أرقى الدول وطور نظامها، آخذاً ما يناسب تقاليد وعادات الوطن نبراساً له. كلفه المرحومون الملوك الذين عمل تحت رايتهم بمهام سرية في بعض الأمور إضافة لعمله، وكان كاتماً للسر لا يبوح بما لديه في عمله إلا بما هو مسموح له أن يبوح به فكان خير من نال ثقتهم».
حضور اجتماعي لافت
بعد تركه لعمله الرسمي، انصرف إلى حياته الخاصة مبتعداً عن الأضواء ورافضاً إجراء الحوارات الإعلامية، لكنه حافظ على علاقاته مع رجالات وطنه من مسؤولين وأعيان ووجهاء ومفكرين وإعلاميين من خلال لقاء كان ينظمه بمنزله العامر كل خميس، ويروي فيه للحضور صفحات من تاريخ بلاده المجيد من خلال الحكايات والنوادر التي عاصرها وكان شاهداً عليها إبان عمله في المراسم الملكية. وظل على هذا الحال حتى توفاه الله. كتب الأستاذ حسين شبكشي في صحيفة «عكاظ» (مصدر سابق) عن مجلس السيد أحمد من وحي تردده عليه فقال: «كان للسيد أحمد عبدالوهاب حضور اجتماعي لافت ومميز، وكان يتصدّر المجلس بقامته الممشوقة العالية وهندامه المميز بثيابه القفطان والسديري الملون ومنديل الجيب البارز فيه الذي أصبح من سمات أناقته وبصمته التي اعتاد عليها أحباؤه ومعارفه».
انتقل السيد أحمد عبدالوهاب إلى جوار ربه في أحد مستشفيات جدة الخاصة في فجر يوم الجمعة التاسع والعشرين من شهر شعبان 1443 للهجرة المصادف لليوم الأول من شهر أبريل 2022م، تاركاً خلفة زوجته السيدة علياء المحاسني وابنتيه نوره (زوجة هاني أحمد زكي يماني) وسارة (زوجة مازن التميمي)، وسيرة عطرة زاخرة بمكارم الأخلاق وجليل الأعمال. وقد صُلي عليه في اليوم التالي بالمسجد الحرام، وووري جسده الثرى بمقابر المعلاة بمكة المكرمة، وسط حشد من المعزين من كبار المسؤولين ومختلف أطياف المجتمع.