في عام 2022، وبعد فترة طويلة من بدء الحرب في أوكرانيا، كانت وسائل الإعلام لاتزال «تغطي الحرب الأخيرة»، إذا جاز التعبير. وكان العنوان الرئيس في صحيفة «نيويوركر» تقريراً عن طائرة بدون طيار من طراز «بايراكتار تي بي 2» التي اعتُبرت على نطاق واسع أنها البطل المنتصر في حرب «ناغورني قره باغ» عام 2020، إذ تمكنت هذه «الطائرة التركية بدون طيار من تغيير طبيعة الحرب ونتيجتها».
وهذا غير مستغرب، لأن طائرة «تي بي 2» أثبتت أنها تثير الرعب في قلوب العسكريين أكثر بكثير من حجمها، وهي طائرة بدون طيار تحمل قنابل موجهة بالليزر. واستمرت طوال فترة الحرب التي زادت عن ستة أسابيع هي المسيطرة على ميدان المعركة، واستخدمت أذربيجان الطائرة «تي بي 2» كي تحقق تأثيراً مذهلاً على مسيرة الحرب، حيث قامت هذه الطائرة بتدمير الكثير من الدبابات، والمصفحات، واستحكامات الجنود، ومن ثم كانت تبث صور فيديو تعرض بالتفصيل تلك الهجمات التي قامت بها.
أذربيجان حققت النصر بالدرون
وبجزء صغير للغاية من تكاليف الطائرة المقاتلة التقليدية، كانت أذربيجان قادرة على السيطرة على الجو فوق «ناغورني قره باغ» وتحقيق نصر سريع، حيث يعود الفضل الأكبر إلى هذه الطائرة التركية بدون طيار.
ولاحظ ذلك بقية العالم، وبدأت الجيوش في إعادة تقييم الدور الذي قد تلعبه الطائرات الصغيرة الرخيصة الثمن بدون طيار في الحروب المستقبلية. وعندما بدأت حرب أوكرانيا، استخدم الجيش الأوكراني طائرات «تي بي 2» لإحداث تأثير مدمر على القوات الروسية، حيث تمكنت هذه الطائرات من تدمير العديد من الدبابات والقطارات وحتى السفن الروسية، ونشرت لقطات عما كانت تقوم به من إنجازات في الحرب، بكل سهولة على وسائل التواصل الاجتماعي.
ولقد بدأت حقبة جديدة، حيث يمكن أن تقوم طائرة الدرون التي تكلف بضعة ملايين من الدولارات ببث فعاليتها العالية ضد واحد من أقوى الجيوش في العالم. وكان انعدام التناسب مع الطائرات التقليدية في سعر الدرون مثيراً للخوف.
ومع ذلك، فقد أظهرت الحروب الرئيسة التي شهدها عام 2023 أنه على الرغم من وجود انعدام التناسب هذا، فإن مستقبل الحرب يشبه إلى حد كبير ما كانت عليه في الماضي.
وسقطت طائرات الدرون في ميدان المعارك الأوكراني، بالنظر إلى أن الجيش الروسي الذي تقدم بسرعة ودون انتظام في البداية داخل الأراضي الأوكرانية نتيجة سهولة السيطرة على تلك الأراضي، قام بتعزيز نفسه في مواقع دفاعية، كما تم تكيف دفاعاته الجوية مع طائرة الدرون «تي بي 2»، وتمكن من التعامل معها. وقد وصل الهجوم المضاد الذي تفاخرت به أوكرانيا كثيراً في بدايته، إلى طريق مسدود أو حتى إلى الهزيمة، وفق الآراء المطلعة على ذلك الهجوم. وكانت القوات الأوكرانية غارقة في المستنقع على طول الخطوط الدفاعية الروسية الواسعة في شرق أوكرانيا، كما أنها لم تكن قادرة على إحداث أي ثغرات عبر هذه الخطوط الدفاعية.
ويبدو مقطع الفيديو الذي تم التقاطه أخيراً لجنود أوكرانيين محاصرين في حقل خارج مدينة باخموت، وكأنه شيء من الحرب العالمية الأولى، حيث تبدو المناظر
الطبيعية القاتمة الخالية من الأشجار نفسها، وصوت المدفعية وهي تقصف الحقول بينما تحتمي القوات في الخنادق الموحلة، ويصرخ الجرحى. وباتت الحرب في أوكرانيا وحشية وطاحنة، كما أن تأثيرها في الناس والمناظر الطبيعية غير معروف في الحروب التي حدثت في الماضي القريب.
وسيلة إقناع
ومن الواضح أن الحرب في جوهرها لم تتغير حقاً، وربما أنها لن تتغير. وصحيح أنه كانت هناك حروب قصيرة وسريعة، وتعتبر حرب الخليج الأولى إحداها، على سبيل المثال. ولكن الحرب بشكل عام هي استمرار للإقناع السياسي بوسائل أخرى، وهذا يعني أن الحرب تؤثر دائماً في جميع السكان، وغالباً كوسيلة لإقناع السياسيين. وفي الواقع، فإن التغير الذي طرأ على أوكرانيا في هذه الحرب، أنها للمرة الأولى تحدث أحداثها على مرأى من العالم قاطبة، حيث شاهدها الجمهور الغربي. وعلى الرغم من تراوح حجم التدمير، إلا أن طبيعته لاتزال كما هي، ولم تتغير بالمطلق.
وفي الحقيقة، فإن الدمار الذي لحق بمدينة باخموت الأوكرانية ليس جديداً. وهذا هو شكل الحرب، وهي دائماً ما تكون كذلك؛ وكل ما في الأمر هو أن الجماهير في الغرب نادراً ما تواجه واقعها كما يحدث الآن. ودارت هذه الحرب عبر وسائل الإعلام لأسباب متعارضة، وكان يقصد من ذلك في حرب أوكرانيا، إقناع الجماهير الغربية بقبول خيارات ساستهم وإن لم تعجبهم. وكان الواقع على شاشات التلفزيون والهواتف المحمولة بمثابة دعوة إلى الاستيقاظ لجمهور غير معتادٍ على ما يبدو عليه الصراع الحقيقي عن قرب. ولكن في الواقع، فإن مستقبل الحرب لم يتغير كثيراً، وكذلك طبيعة الحرب، التي هي في نهاية المطاف امتداد للسياسة. ولكن الأمر الذي لم يتغير في أوكرانيا هو الأهمية القصوى لما يحدث خارج ساحة المعركة.
الحرب من أجل المفاوضات
ولطالما ينسى أولئك الذين يشنون الحروب، بسهولة، أن الهدف من الحرب ليس مواصلة القتال والمعارك، وإنما وضع نهاية لها. ولكن الساسة الذين ينخدعون بسهولة بمجد الحروب وخطاباتها ينسون ذلك أيضاً. ولم تكن الفكرة الأولية من تسليح الأوكرانيين هي السماح لهم بالقتال في حرب ضروس تمتد لسنوات عدة، وإنما لمنحهم القدرة على الوقوف في وجه الروس، وإجبارهم على الذهاب إلى طاولة المفاوضات. وفي الواقع، فإنه كلما طال أمد الحرب واشتد توحشها ازدادت صعوبة مهمة السياسيين الذين أشعلوا هذه الحروب في البداية، من أجل التوصل إلى حلول لوقف هذه الحروب. ولقد عزّزت الحرب التزام الأوكرانيين بالقتال، خصوصاً بعد وقوع خسائر فادحة في أرواح البشر، وينطبق الأمر ذاته على الجانب الروسي، على الأقل في ما يتعلق بالالتزام السياسي، إذ إن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لا يستطيع التراجع عن هذه المعركة العلنية. ولقد أظهرت الصراعات العام الماضي أن الحروب القديمة لا تنتهي، فالتكنولوجيا الجديدة والعداوات الجديدة والقادة السياسيون الجدد يعمدون وببساطة إلى خوض الحروب القديمة نفسها، وبالطريقة القديمة نفسها، مراراً وتكراراً، وفي أغلب الأحيان.
• التغير الذي طرأ على أوكرانيا في الحرب مع روسيا، أنها للمرة الأولى تجري أحداثها على مرأى من العالم قاطبة، حيث شاهدها الجمهور الغربي، وعلى الرغم من تراوح حجم التدمير، إلا أن طبيعته لاتزال كما هي، ولم تتغير بالمطلق.
• الحرب بشكل عام هي استمرار للإقناع السياسي لكن بوسائل أخرى.