مع التقدم في علم الجينوم.. حصلنا على مشهد مختلف للرعاية الصحية، حيث بات في وسعنا المشاركة عملياً في فهم وتشكيل ملامحنا الصحية الشخصية.
ومع ذلك، فنحن نحتاج إلى الموازنة بين آفاق هذا العلم والتحديات التي تفرضها القيود التكنولوجية والمالية والأخلاقية والثقافية التي يخضع لها.
«الإمارات اليوم» تفتح ملف التطور في فهم هذا الحدث، وفهم وجهات النظر العامة حول تحرير الجينوم البشري واستشراف المستقبل فيه من خلال استطلاع آراء الخبراء والمختصين من الإمارات ودول عربية، إلى جانب استطلاع رأي أولياء أمور لديهم أطفال من ذوي الهمم، من خلال الاستناد على دراسة استقصائية إلكترونية لاستكشاف مواقف الناس تجاه تأثير تكنولوجيا الجينات عليهم وعلى مجتمعاتهم.
يصف كثير من الخبراء «التعديل الجيني» بأنه «ثورة علمية» كبرى.. مؤكدين قدرة إعادة كتابة الشفرة الوراثية على وضع حدّ لأمراض كثيرة رافقت البشرية منذ قرون.
ويمثل اكتشاف تقنية «كريسبر» (تحرير الجينات البشرية) الانعطافة الأكبر منذ بزوغ فجر الهندسة الوراثية في السبعينيات.. إلا أنها لاتزال محاطة بشكوك قانونية وأخلاقية، قد تعطل أو تبطئ فرص الاستفادة منها.
وتفصيلاً، تعمل تقنية كريسبر على إجراء تغييرات محددة وموجهة على الحمض النووي، سواء بتعديل أو تغيير أو حذف تسلسل الحمض النووي والمعلومات الوراثية.
وكان عالم في الفيزياء الحيوية (الدكتور الصيني هي جيانكو)، قام وفريقه بتخليق ابنتين توأم معدلتين وراثياً، ما أثار كثيراً من ردود الفعل الرافضة عالمياً.
وفي ضوء ذلك، أنشأت منظمة الصحة العالمية عام 2019 لجنة استشارية معنية بتطوير المعايير العالمية للحوكمة والرقابة على تحرير الجينوم البشري، إلى جانب تقريرين أمميين في مجال تنظيم تكنولوجيا الحمض النووي بعد مشاورات عالمية واسعة النطاق حول مختلف أنواع العلاجات الجينية التي تتضمن تعديل الحمض النووي للمريض لعلاج الأمراض.
وتضمن ذلك تعديل الخط الجرثومي والجينوم البشري القابل للتوريث، أي إجراء تغييرات على المادة الجينية، التي يمكن أن تشمل تطوير الأجنة البشرية.
ونجحت دول في استخدام هذه التقنية خلال جائحة «كوفيد-19» وكانت الإمارات قد اعتمدتها للكشف عن حالات الإصابة بفيروس «كورونا».
ويقدر حجم اقتصاد علم الجينوم عالمياً اليوم بنحو 24.16 مليار دولار أميركي في عام 2021، ومن المتوقع أن يشهد معدل نمو سنوي مركب يبلغ 16.4% من عام 2022 إلى عام 2030، مدفوعاً بعوامل، مثل الطلب المتزايد على الطب الجيني والطب الشخصي والأدوية.
وتبين الأرقام أن عبء الكلفة الذي تفرضه الأمراض الوراثية والمعقدة على الاقتصاد كبير جداً.
وقد رصد المركز العربي للدراسات الجينية، التابع لجائزة حمدان بن راشد آل مكتوم للعلوم الطبية 1650 مرضاً وراثياً في دول الخليج، منها 356 مرضاً داخل دولة الإمارات، ما يشكل عبئاً مالياً على اقتصاد الدولة. وفي المقابل، فإن المكاسب المحتملة من الابتكارات المستقبلية في مجال الرعاية الصحية كبيرة أيضاً، خاصة في ما يتعلق بمشاريع العلاج الجيني.
وعلى الرغم من الحديث المحفز والإيجابي حول هذا المستقبل، فلاتزال قضية تحرير الجينات البشرية تثار بين فترة وأخرى، على اعتبار أنها غير قانونية حالياً في العديد من البلدان، وهي لا تقترح إلا كخيار أخير.
وشرحت رئيسة جمعية الإمارات للأمراض الجينية، عالمة الجينات الإماراتية، الدكتورة مريم مطر، أن «العلاج الجيني هو استبدال جين يوجد فيه طفرة بآخر، لعلاج المرض، أو تحسين قدرة الجسم على محاربته».
وذكرت أن «تعديل الجينوم البشري يتمتع بإمكانيات هائلة لعلاج الأمراض، لذا من الضروري أن يستخدم أداة علاجية وليس لأغراض غير أخلاقية»، مؤكدة أهمية الضوابط لحفظ حق المريض في العلاج، وضرورة وضع خطة واضحة عن البرامج المقامة بهدف تحسين الصحة العامة.
وقالت مطر إن أبرز العلاجات حالياً، «الخلايا الجذعية» و«تحرير الجينات»، أو تقنية «تعديل الجينات».
وأفادت بأن «أداة كريسبر/ كاس9 هي تقنية تحرير جيني ثورية، يمكنها تعديل أي منطقة من مناطق الجينوم لأي نوع، بدقة. وهي تقوم بذلك دون إضرار بالجينات الأخرى».
وشددت على ضرورة حماية خصوصية المعلومات الجينية للمرضى في المستشفيات عبر وضع سياسات وإجراءات دقيقة، تنظم جمع واستخدام مشاركة المعلومات الجينية.
وبدوره، أكد الدكتور محمد بن أحمد بن مروان الزهراني، أخصائي علوم الطب الوراثي والصيدلة الجينومية، أهمية التعديل الجيني «خصوصاً أننا نضع تحسين الصحة وتعزيز جودة الحياة في المقام الأول بين اهتماماتنا»، معرباً عن تفاؤله بقدرة الدول العربية على تطوير أبحاث الجينوم وتأسيس مراكز جديدة وزيادة الاستثمار في التعليم والتدريب، وتعزيز التعاون الإقليمي والدولي، وتوفير الدعم المالي والبنية التحتية اللازمة لمراكز البحث الجينومي والمعاهد المتخصصة.
وأفاد أستاذ الطب الجيني، رئيس قطاع الأبحاث بجامعة شفيلد، الرئيس التنفيذي لمعهد علاج الأورام في جامعة برادفورد بالمملكة المتحدة، الدكتور شريف الخميسي، بأن «علم الجينوم» على وشك أن يجعل أمراضاً تاريخية، خطرة، جزءاً من الماضي، سواء من خلال توفير العلاج المباشر للمرض، أو من خلال منع الإصابة به عن طريق الفحص الجيني المبكر.
وحدد أربعة أمراض، على رأسها مرض ضمور العضلات الشوكي، وأمراض الدم (مثل الثلاسيميا وفقر الدم)، ومرض فقد البصر الناتج عن سبب جيني، وأخيراً أمراض السرطان، عالجها العلم الجديد، لافتاً إلى أن «التعديل الجيني أصبح أهم طرق العلاج التي يعرفها عالمنا حالياً».
وأكد الدكتور صالح سليم الحموري، المتخصص في استشراف المستقبل، أن عدداً من تقنيات تحرير الجينوم راسخة في البحث، إلا أن تطوير أدوات أكثر تقدماً – بما في ذلك نظام «كريسبر» – أدى إلى تسليط الضوء على تحرير الجينوم.
وتابع أنه «يعد ابتكاراً واعداً، إلا أنه مازال في مرحلة التطوير والاستكشاف، وتثير استخداماته الواسعة العديد من القضايا الأخلاقية والقانونية المثيرة للجدل، مثل تعديل الخلايا الجينية البشرية وتأثيرها في الأجيال اللاحقة».
وشدد على أهمية الاستثمار والابتكار في هذه التكنولوجيا، واستخدامها في معالجة الأمراض.
وتخضع التطورات التقنية الحديثة للتنازع بين الحظر والإتاحة. ووفقاً لمسح أجري في عام 2014 على 39 دولة، فهناك 25 دولة لديها حظر قانوني، وأربع دول لديها حظر صريح راسخ في المبادئ التوجيهية. ودولة واحدة -هي الولايات المتحدة – لديها حظر فعلي يحول دون المضي قدماً في تحرير جينوم السلالة الجرثومية.
ووافقت المملكة المتحدة رسمياً على تعديل الجينات في الأجنة البشرية، لأغراض البحث فقط. وتنص اتفاقية «أوفييدو» التابعة لمجلس أوروبا على استخدام الاختبارات الجينية التنبؤية للأغراض الطبية فقط.
وتدعو على وجه التحديد إلى حظر استخدام الهندسة الوراثية للخط الجرثومي، أو تغيير تركيبة الأجيال اللاحقة.
وهناك أيضاً جهد دولي بقيادة الولايات المتحدة وبريطانيا والصين لتنسيق تنظيم تطبيق تقنيات تحرير الجينوم الذي بدأ رسمياً في ديسمبر 2015 مع القمة الدولية لتحرير الجينات البشرية في واشنطن.
وتدعو الأكاديميات الوطنية للطب والعلوم والهندسة في أميركا إلى توخي الحذر أثناء متابعة التعديل الجيني البشري، إلا أنها تؤكد أن «الحذر لا يعني أن هناك خطراً وراء هذه العملية».
وفي عام 2018 قامت فرانسوا بايليس وهي أستاذة أبحاث جامعية في Dalhousie قسم الفلسفة في الجامعة وكلية الطب، وتعمل حالياً في اللجنة الاستشارية للخبراء التابعة لمنظمة الصحة العالمية بشأن تطوير المعايير العالمية للحوكمة والإشراف على تحرير الجينوم البشري، مع مجموعة من الباحثين المشاركين، بإجراء دراسة مستقلة عبر مراجعة وثائق السياسات، بما في ذلك التشريعات واللوائح والمعاهدات الدولية، وجمعت الدراسة 106 دول، لتحديد المقتطفات التي تشير إلى السلالة الجرثومية البشرية أو تحرير الجينوم الوراثي أو ما يتعلق به.
وتم بعد ذلك تنظيم وثائق السياسة هذه بشكل منهجي في الفئات التالية: مسموح به، محظور، محظور مع استثناءات، غير محدد ولا توجد معلومات ذات صلة.
وبشكل عام، حدد الباحثون ما مجموعه 125 وثيقة سياسة من 96 دولة.
وخلصت النتائج إلى أن 40 دولة لديها سياسات محددة لمعالجة هذا الأمر، فيما تحظر 23 دولة هذا البحث، وتسمح 11 دولة بذلك صراحة.
وكان من النتائج المفاجئة في إطار الدراسة الزخم نحو تطوير تحرير الجينوم الوراثي من قبل غالبية الدول التي شملتها الدراسة.
كما حددت الدراسة عدداً من التوصيات، أهمها: وجوب تطوير القوانين واللوائح والمبادئ التوجيهية اللازمة والعملية، ضرورة تطبيق العقوبة بما يتناسب مع الجريمة، وأخيراً النص على التدابير الوقائية في قانون محدد.
• «تقنية كريسبر تدعو لإجراء تغييرات محددة وموجهة على الحمض النووي».
• «التعديل الجيني البشري غير قانوني في العديد من البلدان».
■ «منظمة الصحة العالمية أنشأت لجنة استشارية معنية بتطوير المعـايير العالمية للحوكمة والرقابة على تحرير الجينوم البشري».
• الخارطة الجينية للإمارات وبرنامج ما قبل الزواج
نجحت الإمارات في دخول السباق العالمي في علم الجينوم منذ عام 2003 عند إنشاء برنامج فحص ما قبل الزواج، وبعدها حققت نقلة نوعية من خلال انطلاق مشروع برنامجها الوطني للجينوم الذي يقوده مجلس برنامج الجينوم، وأنجزت طوال هذه الفترة العديد من الأبحاث والدراسات التي تسهم في التقدم المأمول في عالم الطب الحيوي والجينوم وتطبيقاته.
وحول المشروع الإماراتي الرائد، قال الرئيس التنفيذي لتطوير الأعمال في شركة «جي 42» (برنامج الجينوم الإماراتي)، كريم شاهين، إن البرنامج جمع مئات الآلاف من العينات منذ إطلاقه في 2019، ويهدف إلى استخدام البيانات الجينية الوراثية للمواطنين، لتحسين الصحة العامة. وتابع أنه يسعى إلى جمع مليون عينة خلال ثلاث سنوات.
وأضاف شاهين أن دور برنامج الجينوم الإماراتي يتمثل في تمكين مجتمع الرعاية الصحية والطب من تسخير قوة تكنولوجيا الجينوم والعلوم لتحسين صحة السكان المحليين وتحقيق أولويات الرعاية الصحية الرئيسة لدولة الإمارات العربية المتحدة عبر استخدام البيانات الجينية بهدف تصنيفها وتحديد تسلسل الجينات بين مواطني الدولة للمساعدة في الوقاية من الأمراض المزمنة وعلاجها.
وفي أبريل 2020، أنجز فريق بحثي من جامعة محمد بن راشد للطب والعلوم الصحية، أول تسلسل كامل للجينوم في الإمارات لفيروس «كوفيد-19» من مريض في دبي.
وفي عام 2021 أعلنت الجامعة ذاتها ومركز الجليلة لعلم الجينوم في مستشفى الجليلة التخصصي للأطفال بالتزامن المشروع المشترك لإطلاق مركز الاكتشاف الجيني الأول من نوعه بهدف تقديم خدمات التشخيص والعلاج لمرضى الاضطرابات الجينية، فضلاً عن تعزيز أبحاث الجينوم المحلية وإعداد الجيل القادم من العلماء في الدولة.
كما قام باحثون في جامعة الإمارات العربية المتحدة بتطوير خطوط خلوية باستخدام تقنية تعديل الجينات CRISPR-Cas9 المستخدمة لفهم الأمراض، فيما قام باحثون من جامعة خليفة بالتحقيق في متغيرات الجينوم المحددة التي قد تشير إلى عوامل الخطر لأمراض معينة ويسعون إلى فهم كيف يمكن لهذه الاختلافات الجينية أن تساعد في تطوير خطط علاج أكثر تخصيصاً. وهناك الكثير من الأبحاث والمشاريع المتعلقة بالعلاجات الجينية الحديثة.
وهناك مستشفيات حكومية وخاصة في الدولة تختص في علاج الأمراض الوراثية، والحالات التي تم الموافقة عليها دولياً وبالتحديد من إدارة الدواء والغذاء الأميركية المتعلقة بالبصر وضمور العضلات الشوكي.