بداية من غرف البيت القديم غرفةً غرفةً، مروراً بالفريج واسم كل واحدٍ من الجيران، وصولاً إلى الساحة الرملية، وملعب الطفولة الأول الذي شهد بدايات الموهبة، يستعيد اللاعب الدولي السابق والمحامي سالم حديد الذكريات برفقة «الإمارات اليوم»، إذ لا تغيب عن باله تفاصيل المكان التي تغيرت كلياً، وكذلك أسماء أصدقاء الصبا، وملامح منازلهم التي كانت بمثابة بيوت للجميع.
«كان بيتنا مكان هذه البناية».. قال سالم حديد وهو يشير بيده إلى إحدى البنايات الكبيرة، في منطقة الشويهين بقلب الشارقة، والذي تحل مكانه اليوم إحدى العمائر التي تضم محلاً لتجارة الأدوات المنزلية، يقابلها مركز للبريد الذي كان ساحة للعب كرة القدم، مضيفاً: «مدخل البيت كان في المكان الذي أقف فيه، فبعد عودتنا من دولة الكويت الشقيقة سكنَّا هذا البيت في فترة السبعينات، وهو أول بيت نشأت فيه، ثم انتقلنا في بداية الثمانينات إلى بيت شعبي في منطقة سمنان، ومن بعدها إلى منزلي الحالي في منطقة الطرفا».
ويحكي سالم حديد: «أذكر أن مدخل البيت كان يتكون من جدارين، بينما بني أحد الأطراف من (العريش) الذي استبدل لاحقاً بجدار، إذ أرادت والدتي استبدال العريش بجدار، إلا أنها لم تستطع القيام بذلك وحدها، نظراً لعدم وجود والدي في ذلك الحين، فساعدها في ذلك جارنا عبدالله بن أحمد المطروشي، رحمه الله، وهو مقاول من سكان الفريج، بينما قمنا ببناء الغرف الباقية لاحقاً. وكان البيت يضم مخزناً، أو كما كنا نطلق عليه محلياً (حجرة) وحماماً كنا نطلق عليه سابقاً مسمى (الزاوية)، إضافة إلى ثلاث غرف ومطبخ وحمام خارجي».
الحي الذي كان يسكنه سالم حديد ضم عدداً من أبرز معالم الشارقة آنذاك، والمتمثلة في «سوق الظلام» و«شارع المحاكم» وغيرهما من الأسواق والمدارس، كمدرسة حطين التي درس فيها خلال طفولته، وكان يذهب إليها مشياً على الأقدام كغيره من أبناء المنطقة التي تغيرت الآن من سكنية إلى تجارية، فأصبح هناك الكثير من البنايات التجارية، وتمت إزالة سوق الظلام الذي كان أحد أشهر المعالم آنذاك، ولكن، كما يؤكد سالم حديد: «مازالت السكة المؤدية للبحر موجودة، وبائع اللحوم الذي كنت أتردد عليه، مازال حاضراً مقابل الكورنيش».
حكايات الكورنيش
ويستطرد اللاعب الإماراتي السابق، عن حكايات البحر وذكرياته بشكل خاص، إذ ترعرع قريباً منه: «كان الكورنيش على بعد خطوات من منزلي، وقضيت أوقات طفولتي وشبابي مع أصدقائي على البحر مستمتعاً بالسباحة والصيد، ولدي كثير من الذكريات التي لا تنسى في هذه المنطقة، وأذكر أننا كنا نستمتع بصنع قوارب صغيرة، نستخدمها عند ذهابنا لصيد السمك، ونتجول في الدكاكين بعد عودتنا من البحر».
ويعد الشارع البحري على كورنيش الشارقة أحد أبرز المعالم وأهمها بالنسبة لسالم ورفاقه، إذ كان يحتوي على كثير من الدكاكين وباعة الأسماك والخضار: «كنا نسلك هذا الطريق للمشي للمدرسة، ونمرّ على منزل (خالتي سعيدة) لتناول وجبة الفطور والشاي صباحاً في طريق ذهابنا، إذ كنا نمشي مسافات طويلة تقارب أربعة كيلومترات يومياً ذهاباً وعودة».
أنشطة صيفية
ويكمل سالم حديد حبل الذكريات، ليصل إلى البرامج الخاصة خلال فصل الصيف بتلك الأيام: «ففي ذلك الوقت أنشأ المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، مشروع زايد لتحفيظ القرآن في الصيف، فكان المشتركون في برنامج التحفيظ يحصلون على 500 درهم مكافأة من المغفور له الشيخ زايد، وكان ذلك بمثابة تحفيز للالتزام بالحضور والحفظ، كما كانت القوات المسلحة تنظم دورات صيفية للشباب، وأذكر أنني كنت من أوائل المنتسبين إلى هذه التدريبات، ورافقني في هذا البرنامج صديق الطفولة أحمد درويش».
حين غرق «مختار»
ويحمل كورنيش الشارقة كثيراً من ذكريات طفولة سالم حديد، إذ يستعيد حادثة «غرق مختار»، حيث أنقذ هو وصديقه علي عمران أحد الأشخاص الذي يدعى مختار من الغرق، موضحاً: «كان مختار يقف أمام الكورنيش، وإذ بصديق آخر يدفعه نحو البحر من باب المزاح، ظناً منه أنه يجيد السباحة، ولكنه كاد يغرق، إذ سمعته يستنجد، وقمت بإنقاذه في موقف لا ننساه حتى اليوم».
ويشرح سالم حديد معالم المكان القديمة: «كان هنا منزل المعتمد البريطاني، وبجانبه بيت خميس سالم الهولي الذي كان قديماً ومهجوراً حسبما أذكر، وتسكن فيه (بريلة)، وهي من الشخصيات التي كانوا يخيفون بها أطفال المنطقة، وكانت هناك شخصيات أخرى غير (بريلة) لإخافة الأطفال، ومنها شخصية (الشاعر)، وهو رجل دائماً ما كان يمر من الشارع حاملاً العصا أو الخيزرانة، ويلقي القصائد، وكان بعض الأطفال يخافون منه».
وينوه بأن «هذه شخصيات حقيقية كانت موجودة في المجتمع، ولها دور في تهذيبنا وتربيتنا خلال صغرنا، إذ كانت إحدى الأدوات التي يقوم أولياء أمورنا بتخويفنا بها لننصاع لأوامرهم».
ولا ينسى سالم حديد جيران الحي وأصدقاء الطفولة والصبا: «هناك الكثير من أبناء الفريج الذين كبرت وترعرت معهم، وكان لهم الكثير من الذكريات معي، إلا أننا لم نعد نجتمع كالسابق لمشاغل الحياة، وأذكر منهم الأخ علي عمران تريم، وحمد مطر، ومبارك ربيع، وأحمد درويش، والوالدة شيخة بن ركاض، وعفراء بنت سالم، وجعفر الزرعوني، وراشد بن مانع آل مكتوم، ومحمد بن أحمد بن إسماعيل، ومطر عمران تريم، والمطوع مطر، وهم ممن كانوا في الفريج نفسه».
صقل مهارات
بدأ سالم حديد بلعب كرة القدم في طفولته بأزقة الفريج، وكان للساحات الرملية دور كبير في صقل مهاراته باللعبة، إذ كان يلتقي يومياً أصدقاءه في الساحة التي تقابل منزله آنذاك، والتي تقع مكان بريد الشارقة فرع السوق القديم حالياً.
ويروي: «كان للعب كرة القدم في الفريج طعم آخر، إذ كانت هناك ساحة نجتمع فيها للعب الكرة، وكنا نذهب لمنطقة النباعة لأجل بعض المباريات الأخرى أيضاً. طبيعة الأرض سابقاً كانت تشجع على إبراز المواهب، خصوصاً عند اللعب على الأرض الرملية التي تساعد على التحكم بالكرة وإبراز المهارات وصقلها، فنجد أن معظم اللاعبين الإماراتيين من الأجيال السابقة كانت بدايتهم في اللعب بـ(الفرجان) مع الأصدقاء، وهناك كثيرون من اللاعبين الماهرين في زمننا الذين لم تتوافر لديهم الإمكانات المادية، إلا أنهم عملوا بجد واجتهاد للوصول إلى أهدافهم».
الطريق للنجومية
ويستطرد سالم حديد في الحديث عن هوايته الأولى: «تعلمنا من خلال لعب الكرة أن من المهم أن نضحي بالكثير من الأمور للوصول لهدفنا في النجومية، إذ ضحى لاعبون آنذاك بأمور كالوقت والتعليم، إلا أن هناك كثيرين من أبناء جيلي الذين حرصوا على استكمال تعليمهم أيضاً، إذ كان لدينا حرص كبير على الاستمرار في تحقيق أهدافنا الرياضية، والموازنة بينها وبين التعليم. فالمجتمع غرس فينا الكثير من القيم، ومن أبرزها أنه لنصبح مميزين علينا أن نحصل على مستوى عالٍ من المعارف يوازي المستوى الرياضي، ولذلك نجد معظم أبناء جيلنا من اللاعبين هم من الخريجين الجامعيين، وأذكر منهم: فهد خميس، الدكتور موسى عباس، عبدالقادر حسن، فاروق عبدالرحمن، وغيرهم من اللاعبين الذين حرصوا على استكمال تعليمهم، وهو ما أحرص على نقله لأبنائي، وأشجعهم على تلقي العلم، وتطوير أنفسهم في شتى المجالات، وتطوير المؤهل التعليمي».
نساء مربيات
وعن المبادئ التي غرست فيه منذ طفولته، ودور المجتمع، يشير سالم حديد إلى دور نساء الفريج في تربية أبناء الفريج كافة، وتأسيسهم وفق المبادئ التي بنيت على الأسس المجتمعية المستمدة من الدين الإسلامي، إذ نشأ كغيره من أفراد المجتمع الإماراتي آنذاك على أسس دينية، تتمثل في أداء الصلاة في وقتها، وصيام رمضان، علاوة على الحرص على التعليم كأولوية، وموازنتها بالأمور الأخرى، كلعب الكرة الذي كان يستمتع بقضاء وقته فيه بالفريج، وفي الأندية لاحقاً.
وبخصوص أهمية التعليم في مسيرته، وحرصه على الموازنة بينه وبين اللعب والوصول إلى النجومية في كرم القدم، قال «كان لنساء الفريج دور كبير في ترسيخ هذه المبادئ، إذ لم تكن التربية تقتصر على أفراد العائلة الواحدة الممتدة، بل إنها تصل إلى الأقارب والجيران وكل من هو أكبر سناً، فكان لهم دور في التربية، وذلك كون المبادئ مشتركة، والأخلاق متفق عليها».
وأضاف: «لم يكن والداي يجيدان القراءة والكتابة، إلا أنهما كانا حريصين أشد الحرص على أن نتلقى العلم في المدارس، ونحصل على الشهادات، لإيمانهما التام بأهميته، حتى إن الأهل كانوا يقومون بمنعنا من الغياب عن المدارس، حتى مع انتهاء المنهج، لحرصهم الشديد على التعليم، وهو ما أحرص عليه اليوم أيضاً مع أبنائي».
استقبال الأمهات
ويلفت سالم حديد إلى تلاحم المجتمع وتكاتفه في الأفراح والأحزان في ذلك الوقت، إذ كانت مظاهر السعادة تعم أبناء الفريج حين فوز فريق لاعب ينتمي إلى المكان، علاوة على روح التفاعل والتشجيع الكبير الذي يحظى به اللاعب، والتفاعل عند تعرضه للإصابة خلال اللعب، وكلها كانت مشاعر عفوية.
ويكمل: «كان للفريج دوره البارز في دفعنا لإظهار مواهبنا وتقديم الأفضل، وكان لنساء الفريج دور بارز في تشجيعنا والتفاعل معنا، وأذكر في فترة لعبي لكرة القدم، وعند بداية نقل المباريات وبثها عبر التلفزيون، كانت نساء الفريج يتابعنني وأخي عادل، الذي كان يلعب كرة القدم أيضاً، وفي بعض الأحيان عند تعرض أحدنا للإصابة وعودتنا من المباراة، كنَّ يستقبلننا بكل حب. ومن أبرز المواقف التي لا تغيب عن بالي استقبال الوالدة موزة، أو كما كنا نطلق عليها (أمي موزة)، عند عودتنا من مباريات الكرة، فكانت موزة بنت علي جارة لنا من الفريج نفسه، وإحدى المقربات من والدتي، رحمها الله، وتحرص عند عودتنا من المباريات مصابين على معالجتنا بالعنزوت والكركم والملح، وغيرها من الأدوية الشعبية».
ويضيف: «كما أذكر أنه حتى بعد انتقالنا من منطقة الشويهين لمنطقة سمنان كانت الوالدة (أم سعيد) زوجة علي العاجل، رحمه الله، تستقبلنا بجميع أنواع المأكولات، ويجتمع أبناء الفريج عند والدتي (أم عبيد) للاحتفال بفوزنا، فيكون التجمع بمثابة كرنفال للفريج بأسره وفرحة للأهل كاملين».
وتعدّ مجالسة الكبار إحدى أهم المدارس التي قد يتعلم منها الشخص مبادئ السنع، كما يرى سالم حديد: «هي مدرسة ثقافية نستفيد منها الخبرة في الحياة، والتعاون الذي شهدناه من الكبار في تعاملهم وتلاحمهم وقت الشدة».
واعتاد سالم منذ صغره مجالسة الكبار، ومخالطة الرجال لاكتساب «السنع»، مؤكداً: «هناك الكثير من المجالس التي كنت ومازلت أتردد عليها، منها مجلس سالم عبدالرحمن المدفع، رحمه الله، وهو من المجالس المعروفة في الشارقة، ومجلس الأخ إبراهيم القطري، كما أحرص على زيارة مجلس عيسى بوحميد، رحمه الله، وبعض المجالس الأخرى لزملاء الدراسة في أبوظبي».
رحلة.. ومثلٌ مازال يرن
يقول سالم حديد وهو يتذكر صباه: «(لا تكثر الدوس على الخلان يملونك.. لا انـتـه ولـدهـم ولا طـفـلٍ يـربـونـك).. هذا المثل مازال يرن في إذني، ويرتبط بموقف أذكره جيداً، حصل لي عندما سافرت مع والدتي إلى العمرة لأول مرة، إذ كنت أصغر المجموعة التي كان معظمها ممن هم أكبر مني، ومنهم جمعة الزعابي، وغيره من الكبار، وأذكر أنه كانت الرحلة خلال شهر رمضان، فكنت أحضّر الفطور، وأقوم على ضيافة المجموعة، وكنت حينها كثيراً ما أسأل إن كانوا بحاجة لشيء بهدف خدمتهم، ولكن عندما أكثرت السؤال، قال لي الوالد جمعة الزعابي ذلك المثل، فطلبت منه توضيحه حيث لم أفهمه حينها، وأذكر أنه رد علي قائلاً: (إن كنت عزيزاً لدى أحدهم لا تكثر الدوس عليه، أي لا تكثر السؤال والإلحاح كي لا يشعر بالملل تجاهك)، وبهذا فإنه من ضمن الأشياء التي تعلمتها ألا ألح بالطلب في أي أمر كان، ولا أحب من يقوم بالإلحاح علي، وهو أمر تعلمته من خلال مجالستي مع الكبار في تلك الرحلة».
سالم حديد:
. لم يكن والداي يجيدان القراءة والكتابة، إلا أنهما حرصا أشد الحرص على أن نتلقى العلم، ونحصل على الشهادات.
. كنا نمشي مسافات كبيرة تقارب أربعة كيلومترات يومياً ذهاباً وعودة في الطريق إلى المدرسة.
. الكورنيش كان على بعد خطوات من منزلي وقضيت طفولتي وشبابي مع أصدقائي على البحر.
. كان للفريج دوره البارز في دفعنا لإظهار مواهبنا وتقديم الأفضل، ولا أنسى فرحة الأهل بنا حين الفوز.