تجمع تونس ومنطقة شبه الجزيرة الإيبيرية روابط قديمة ومتنوعة منذ آلاف السنين، حيث استوطن القبصيون (التونسيون القدامى) مناطق من شبه الجزيرة وفرنسا وصقلية، تاركين في إثرهم شواهد كثيرة حسب المؤرخ الفرنسي «موريس ريغاس» المختص في عصور ما قبل التاريخ.
بدورهم، عزز الفينيقيون والقرطاجيون منذ 800 سنة قبل الميلاد وجودهم في إسبانيا «تسميتها في الأصل فينيقية i-spn-ya وتعني الساحل أو الجزيرة»، وذلك بهدف الاستيطان والبحث عن المعادن (صوف، فضة، القصدير، الذهب) ثم تطوير التجارة باتجاه أوروبا وشمال الأطلسي.
وتعد «قاديس» و«إيبيزا» و«مالقا» مدنا فينيقية قرطاجية بامتياز، بل إن عددا من المؤرخين يربطون تأسيس مدينتي قرطاجة الجديدة Cartagena novaسنة 228 قبل الميلاد وبرشلونة سنة 230 قبل الميلاد، بالقائد القرطاجي أميلكار برصا Hamilcar Barca.
والأمر نفسه تعلق بكلمة «الأندلس» حيث ينسب البعض هذه التسمية إلى القبائل الوندالية «فانداليسيا» التي استقرت أولا بإيبيريا، ثم انتقلت إلى تونس واتخذت من قرطاج عاصمة لإمبراطوريتهم.
٭ مساهمة تونس القيمة في فتح الأندلس والدفاع عنها:
لقد أدرك المسلمون الأوائل أهمية التوسع باتجاه منطقة شبه الجزيرة الإيبيرية سعيا منهم لنشر تعاليم الدين وفي إطار صراعهم مع البيزنطيين للسيطرة.
وتجسيدا لهذا الطموح، كلف الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك في القرن السادس ميلادي واليه موسى بن نصير حاكم إفريقية، أي تونس حاليا، بالإعداد لحملة فتح الأندلس، أين انطلقت حملة أولى بحرية بقيادة عبدالعزيز بن موسى بن نصير من ميناء قرطاج سنة 708 ميلادي باتجاه جزر البليار (تضم مايوركا ومينورقا حاليا) تلتها ثانية قادها طريف بن مالك وتم بمقتضاها فتح جزيرة طريفة، ثم ثالثة، هي الأكبر، وقادها القائد الأمازيغي طارق بن زياد سنة 711 ميلادي، وكان منطلقها القيروان ومحطتها طنجة ومبتغاها الأندلس.
وعلى امتداد قرابة 800 سنة التي قضاها المسلمون في الأندلس، كانت العلاقات مع تونس (إفريقية) وطيدة على المستوى العلمي والثقافي والديني، ولم تتأثر كثيرا بالخلافات التي سادت بين حكام تونس الأغالبة ثم الفاطمين، مع نظرائهم الأمويين في الأندلس، بل إن القرنين الأخيرين من الوجود الإسلامي بالأندلس شهدا زيادة في الارتباط والتآزر بين الإقليم والبلاد التونسية وصلت إلى حد:
– الدعاء في خطب الجمعة بكل من ألميريا وإشبيلية وشريش وغرناطة وبلنسية وغيرها باسم سلطان الدولة الحفصية التونسية (امتد حكمها من سنة 1228إلى 1574).
– إرسال أهالي بلنسية، حين اشتد عليهم الحصار بعثة بقيادة الشاعر الشهير ابن الأبار القضاعي لطلب النجدة والمدد من السلطان أبو زكرياء الحفصي، منشدا في مطلع قصيدته الشهيرة:
أدرك بخيلك خيل الله أندلسا
إن السبيل إلى منجاتها قد درسا
– مبادرة السلطان الحفصي أبو فارس عبدالعزيز، بإرسال كل عام شحنات من القمح التونسي إلى إمارة غرناطة لمساعدتهم على تجاوز ظروفهم الصعبة.
وتجمع المصادر التاريخية على أن تونس ظلت وفية وداعمة للتواصل مع الأندلس إلى أواخر سنوات الوجود الإسلامي في شبه الجزيرة الإيبيرية، وهو ما يفسر العدد الكبير من المهاجرين الأندلسيين الذين قصدوا تونس (أكثر من 80 ألفا من بين 300 ألف تفرقوا على أكثر من بقعة جغرافية).
٭ أبرز عوامل التأثير التونسي في الأندلس:
وبعد أن اكتمل التمركز العسكري للمسلمين في الأندلس، استوجب أن يتدعم هذا الوجود بإعمار حضاري، وهو الأصعب والأهم، فكان الاستلهام من القيروان، عاصمة إفريقية والبلاد المغاربية ومركز الفقه والأدب والعلوم والهندسة المعمارية والفنون بمختلف أنماطها.
وفي هذا السياق، وجبت الإشارة إلى أن الحركية العلمية والثقافية في القيروان والمهدية ومدينة تونس، وإن كانت لها السابقية والريادة، فإنها اتخذت لاحقا أشكالا من التفاعل مع نظيرتها في الأندلس وفي فاس وفي صقلية، وأصبحت ديناميكيتها أسرع في مدها وجزرها، تأثيرا وتأثرا.
وما يهمنا في هذا الخصوص هو أن نوضح العوامل الرئيسية الخمس التي نعتقد أنها أثرت في علاقة البلاد التونسية بإقليم الأندلس:
تخص الأولى الدور الريادي الذي اضطلع به جامع القيروان وبيت الحكمة ومسجد وجامعة الزيتونة (أقدم جامعة في العالم منذ سنة 737 ميلادي) في تغيير المذهب السائد في الأندلس من الأوزاعي إلى المالكي، ثم ترسيخ فقه المالكية.
ولم يكن ليحصل هذا التغيير لولا إسهامات علماء تونس أمثال الشيخ علي بن زياد حامل النسخة الأصلية من موطأ الإمام مالك والإمام سحنون مؤلف «المدونة» ومحمد عبدالله بن أبي زيد القيرواني صاحب «الرسالة» وأسد بن الفرات فاتح صقلية وصاحب كتاب «الأسدية»، والإمام المازري أول من شرح صحيح مسلم في كتابه «المعلم في فوائد مسلم» والإمام ابن عرفة مؤلف كتاب «التفسير» وأبو الحسن القابسي وغيرهم.
وتتعلق الثانية بإسهامات العلماء والتجار والعائلات التونسية الذين هاجروا إلى فاس أمثال آل الفهري والبناني والمرنيسي وبنصودة، بلخياط، قنون والكديري، الذين ساهموا مع إخوانهم المغاربة في إشعاع مدينة فاس، لاسيما بعد تأسيس جامع القرويين (سنة 877 ميلادي) على يد الفقيهة القيراونية فاطمة الفهرية (أم البنين).
كما شكلت القيروان محطة مهمة في المسار العلمي الغزير للفقيه الأشعري أبو عمران الفاسي، الذي يعتبر المنظر الأول لمشروع المرابطي وتأثره بالشيخ التونسي أبو الحسن القابسي، وهو الأمر نفسه الذي تكرر مع القائد عبدالله بن ياسين، مؤسس دولة المرابطين العتيدة أثناء إقامته بالقيروان.
بدورها، لعبت الأميرة التونسية زينب النفزاوية، التي صنفها ابن خلدون ضمن «إحدى نساء العالم المشهورات بالجمال والرياسة»، دورا مهما في تدعيم أركان الدولة المرابطية في مراكش والأندلس بفضل حكمتها ومداومة زوجها الأمير يوسف بن تاشفين على مشورتها.
كما تتلمذ على يد الإمام المازري التونسي بمدينة المهدية علماء جهابذة أمثال الشيخ محمد بن تومرت، مؤسس الدولة الموحدية والعالم أبو بكر بن العربي الأندلسي، وآخرون رغبوا في الأخذ منه عن طريق الإجازة مثل ابن رشد والقاضي عياض وابن الفرس وابن أبي جمرة وابن أبي العيش، وهم من الشخصيات البارزة التي أثرت في تاريخ الأندلس.
أما الثالثة فتتمثل في انتشار الصداق القيرواني بالأندلس والبلاد المغاربية، ليتم لاحقا الاستلهام منه في الصداق الأندلسي وكذلك الصداق الشنقيطي، وتعد صيغة عقد الزواج القيرواني، وثيقة تقدمية في مجال تكريس حقوق المرأة بالعالم الإسلامي، حيث تتيح لها حق تطليق نفسها إذا تزوج عليها زوجها أو أساء معاملتها أو غاب عنها لفترة طويلة، باستثناء أداء فريضة الحج.
وتعود شهرة هذا الصداق بكونه وثق زواج الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور من أروى التونسية، ملهمته لإنشاء مدينة بغداد.
وتهم الرابعة الهجرة المتبادلة للكفاءات العلمية بين تونس والأندلس، حيث استقبلت إفريقية (تونس) عددا كبيرا من الطلبة والفقهاء والشعراء والأطباء الأندلسيين، إما طلبا للعلم والتدريس أو للعمل والإقامة، لاسيما في فترة الحروب والصراعات بالأندلس.
ويعد كل من ابن الأبار وأبو المطوف بن عميرة وابن الغماز والبياسي وابن عصفور وحازم القرطاجني وابن القصيرو ابن همشك وابن سعيد والطبيري والفرضي وابن أندراس وابن الرومية وابن البيطار والخزرجي، من أبرز العلماء الأندلسيين الذي هاجروا إلى تونس.
في المقابل، يأتي ابن القزاز (رائد شعر الموشحات) وأبو إسحاق الحصري «صاحب قصيدة يا ليل الصب متى غده» وابن شرف القيرواني وعالم الرياضيات أبو اليسر إبراهيم الشيباني، بالإضافة إلى العلامة ابن خلدون مؤسس علم الاجتماع في صدارة النخب التونسية التي سافرت إلى الأندلس.
أما العامل الخامس، فيتجلى في التحاق العديد من الأندلسيين بنظرائهم التونسيين إلى إقليم صقلية التي كانت خاضعة لفترات طويلة تحت الحكم التونسي زمن الأغالبة والفاطميين والصنهاجيين والحفصيين، حيث نشطوا جنبا إلى جنب في مجالات الفقه والشعر والعلوم والزراعة والصناعة، مما أكسب جزيرة صقلية إشعاعا حضاريا كبيرا تحولت بمقتضاه إلى منارة علمية أسوة بالقيروان والمهدية وتونس وقرطبة وفاس.
٭ تونس قبلة المهاجرين الأندلسيين:
بدأت موجات هجرة الأندلسيين أو «الموريسكيين»، إلى تونس قبل نحو 500 سنة من تاريخ سقوط غرناطة سنة 1492 وطالت في البداية العديد من الفقهاء والعامة المتورطين في الثورة ضد حكم الأمير إبن هشام الأول تلتها موجات شعبية أخرى ناجمة عن سقوط الإمارات الأندلسية، وبلغت ذروتها سنة 1609 وشملت 300 ألف نسمة.
وكعادتهم، فتح التونسيون بيوتهم ودورهم ومساجدهم إلى إخوانهم القادمين من الأندلس مسلمين ويهود، من دون تفرقة أو تمييز، بل ان حكام تونس قدموا تسهيلات للسفن المقلة لعشرات الآلاف من المهاجرين للرسو بالبلاد التونسية.
ولم يكتف حكام تونس بهذه التسهيلات، بل أتاحوا للمهاجرين تملك أراض خصبة في شمال البلاد والوطن القبلي لزراعتها واستثمارها بكل حرية مع إعفائهم من الضرائب، كما تم تعيين شيخ منهم يسمى «شيخ الأندلس» يمثلهم لدى الأجهزة العليا للدولة.
وانفردت البلاد التونسية بإرساء سياسة «التمييز الإيجابي» تجاه الأندلسيين، تاركة لهم حرية الاختيار بين الاختلاط في المجتمع أو المحافظة على خصوصياتهم في ممارسة حياتهم اليومية من تعليم وشعائر دينية باللغة القطالنية والقشتالية، وهو الأمر الذي تواصل زهاء القرن من الزمن، تلاه انصهار طبيعي للأندلسيين في المجتمع التونسي وأصبحوا يشكلون عنصرا أساسيا من هوية البلاد.
يعتقد المؤرخ الإسباني «مكيل دي أيبالثا» أن المعلومات المتوافرة عن مورسكيي تونس تفوق تلك المتاحة عن مورسكيي مناطق أخرى، وذلك لسببين: الأول، هو أن الجالية الأندلسية في تونس هي محددة الملامح جدا ولم تختلط في البداية مع بقية المجتمع كما حدث في مجتمعات أخرى، وثانيا، أن الدراسات حول المورسكيين أو الأندلسيين في تونس لها طابع علمي دقيق منذ عدة عقود، وهذا ما ساعد في بروز مجموعة دراسات مهمة تشمل كل الجوانب المتعلقة بالمورسكيين.
٭ مظاهر الإبداع الأندلسي في تونس:
شجعت البيئة التونسية المضيافة الأندلسيين، على البذل والعطاء في جل الميادين والقطاعات، فبرعوا في الزراعة والصناعة والهندسة والطب والشعر والفقه، وشيدوا الجسور ودور الصنايع والمنازل والقصور والأسواق والزوايا والمساجد والجوامع، كما جلبوا معهم مأكولات وملابس وعادات جديدة وأثرا الموروث الموسيقي التونسي عبر فن «المالوف»، الذي يعتبر ثمرة التلاقح بين الأنغام والفنون التونسية الأصيلة والموسيقى الموريسكية الوافدة (لا يستبعد أن يكون لإقامة الفنان زرياب السابقة في القيروان قبل سفره للأندلس تأثير على الأنماط الموسيقية السائدة).
كانت البلاد التونسية، ومازالت دائما، أرضا للتسامح والانفتاح، وحاضنة للإبداع، حين تسأل عن أندلسيي تونس لن يكون سهلا تمييزهم عن بقية أفراد المجتمع، حيث تمازجت الأذواق والأسماء والعادات وانصهرت الهويات والأعراق وتوزعت في كل الجهات.
وإن كان للمرء رغبة في التعرف على «تونس في بعدها الأندلسي»، فما عليه إلا أن يعتمر الشاشية، ثم يشد الرحال إلى مدينة تونس، يسير تحت ظلال أسوارها التاريخية ومنازلها ذات الأبواب العتيقة، ويجوب شارع الأندلس ببيوته وزوياه، ويتجول في أسواق الشواشين والعطارين والسكاجين والقرانة، يعاين منتوجات الصناعات التقليدية ويشم روائح العطر والياسمين الفواحة، ويقف أمام بيت العلامة ابن خلدون متأملا، ويتلمس «سيراميك» مقام سيدي قاسم الجليزي، ثم يبيت ليلته في أحد قصور الضيافة المنتشرة في ثنايا حارات العاصمة التونسية.
زيارة واحدة لا تكفي، إذ لم تضف لها رحلة إلى مدن وقرى ساحلية تونسية ذات جمال خلاب من سليمان بجامعها الكبير الذي يعود بناؤه إلى سنة 1616 وبنزرت وقلعة الأندلس وغار الملح والعالية والماتلين ورفراف ورأس جبل وقربة وقرمبالية وتركي ونيانو والسلوقية ودار شعبان والحمامات وغيرها.
وغير بعيد عن الوطن القبلي، يناديك مقام الولي الصالح سيدي علي عزوز الواقع في مدينة زغوان، حيث الجبال الشاهقة والمياه العذبة والحلويات الأندلسية الممزوجة برائحة زهرة النسري وأشهرها «كعك الورقة» والصمصا وأكلات الملبس والحلالم والرشتة والطاجين والبغرير والبضانج، مأكولات دخلت على المطبخ التونسي أثرته وزادت تنوعه.
وبما أنك في أرض الخضراء، فلا تفوت فرصة السفر في ربوع ضفاف نهر مجردة، حيث الغابات والبساتين والضيعات الممتدة بين سهول طبربة والجديدة والبطان ومجاز الباب وهضاب تبرسق، أين أثمرت سواعد الأندلسيين وإخوانهم منتوجات وفيرة، توزعت بين خضار وكروم ومشمش وزياتين وعنب ورمان (الرمان: هو شجرة تونسية قديمة حملها القرطاجيون إلى إسبانيا وكانت تسمى تفاحة قرطاج).
وفي بلادي لا يطيب الحديث عن الأندلس إلا بزيارة مدينة تستور المدينة الأندلسية المتكاملة وجامعها الكبير، الذي يعد أيقونة الآثار الأندلسية في شمال إفريقية، هو جامع فريد شيده الوكيل محمد تغرينو سنة 1630 بمعية عدد من الأهالي الأندلسيين وفقا لخصوصيات العمارة الأندلسية من هندسة وزخرف ونقوش واستعمل فيه الرخام الإسباني والخزف الملون والقرمود، وتزينت صومعته بساعة عجية عقاربها الخزفية تتجه صوب الأندلس، عكس عقارب بقية ساعات العالم، كما توشحت واجهته برموز الهلال والصليب والنجمة السداسية، كدليل إضافي على أنك في حضرة بلد الأصالة والضيافة والتسامح… تونس العظيمة.
قصة الأندلسيين في تونس، متجذرة وثرية، فالبلاد التونسية كانت المنطلق أيام الفتح، والملهمة للعلوم والفنون، والداعمة في أوقات الشدة، والمحتضنة في زمن المحن، وإن شاءت الأقدار أن توجه صوبها الأندلسيون وأبدعوا في سبيلها، فهي بمنزلة «عودة الدر إلى المعدن».