في شتاء عام 1972 البارد، سأل مدرّس في قرية صينية فقيرة طلابه: «سيكون الرئيس الأميركي نيكسون ومستشاره الدكتور كيسنجر في الصين. ماذا علينا أن نفعل؟». كنتُ حينها في الثامنة من عمري، وكنت طالباً متفوّقاً انتهيت للتوّ من واجباتي المدرسية، حيث كتبت 50 مرة بالأحرف الصينية الشعار السياسي السائد في كل مكان: يسقط الإمبرياليون الأميركيون. يسقط التحريفيون السوفييت، يحيا الرئيس ماو. وسرعان ما أجبت: «اعتقلوهم لأنهم أعداؤنا».
في غضون سنوات قليلة، أدركت كم كنت مخطئاً. لقد ساعد التواصل الأميركي الذي صاغه هنري كيسنجر في تحفيز عقود من التغيرات السياسية المعقّدة في الصين، الأمر الذي أدى إلى عصر من الإصلاح والانفتاح أفضى في نهاية المطاف إلى انتشال 800 مليون شخص من الفقر، وفتح أعين وعقول مزيد من الناس.
كل ذلك أثّر بشكل كبير في حياتي، إضافة إلى حياة الملايين من الطلاب الشباب الآخرين. وبعد خمس سنوات من زيارة كيسنجر، أعادت الصين فتح الكليات بعد أن ظلت مغلقة فعلياً لمدة عقد من الزمن. ومن خلال العمل الجاد والحظ السعيد، تمكنت من الالتحاق بالجامعة، ثم ذهبت بعد ذلك إلى الولايات المتحدة للحصول على درجة الدكتوراه، من الجامعة نفسها التي تلقى فيها كيسنجر دراسته. يا له من تغيير سحري بالنسبة لتلميذ كان قد بدأ للتوّ في نسخ دعاية الحزب. الدرس البسيط الذي تعلّمته في ذلك اليوم هو: لا تنخدعوا بالشعارات السياسية.
لا أستطيع أن أفكّر في أي شخصية سياسية أو زعيم فكري آخر اليوم، ساعد في إحداث تأثير إيجابي هائل في دولة أجنبية مثل كيسنجر. وعلى الرغم من أن وفاته الأسبوع الماضي عن عمر يناهز 100 عام، أثارت ردود فعل مستقطبة في أميركا، فإنها أثارت مشاعر دافئة إلى حد كبير في مجال الإنترنت القاسي عادة في الصين. لقد انتشرت المقالات الممتنّة التي كتبها مواطنون عاديون في ذكراه على نطاق واسع. وبينما يحتدم الجدل حول إرثه، أعتقد أن هناك أمراً واحداً لا جدال فيه، وهو أن كيسنجر كان على حق في ما يتعلق بالصين.
بعد مرور أربعين عاماً على دعوتي لاعتقال كيسنجر، وجدت نفسي أقف بعصبية إلى جانبه على خشبة المسرح أمام جمهور من 2700 شخص في تورونتو، لحضور «مناظرة مونك» السنوية التي ضمت أيضاً المفكرين، نيال فيرجسون، وفريد زكريا. وكان موضوع المناقشة: «هل سيكون القرن الـ21 ملكاً للصين؟». لقد اتخذ كيسنجر الجانب المعاكس من الحجة، واتخذت أنا الجانب الإيجابي منها. تمنيت لو أنني اتخذت وجهة نظره نفسها، ليس فقط لأنني أشعر بالذنب بشأن اقتراح إلقائه في سجن صيني، لكن أيضاً لأنني لم أوافق على الاقتراح الذي طُلب مني أن أجادل فيه، ولم أصدّق قط أن الصين ستمتلك العالم.
ما أثار خيبة أمل زميلي في المناظرة، فيرجسون – ولكن ما أسعدني سراً – هو أننا خسرنا، وكان من الواضح أن سلطة كيسنجر وإدارته للموضوع، إلى جانب العرض الواضح الذي قدّمه زكريا، أعطت فريقه ميزة كبيرة. لقد ترك معظم الحضور المناقشة وهم أقل اقتناعاً بأن القرن الـ21 سيكون ملكاً للصين.
تشكّل النهج الذي اتبعه كيسنجر تجاه الصين من خلال دراسته التي استمرت مدى الحياة لتاريخ العالم وسياساته. وكان لديه فهم عميق للتفاعل بين القوى الكبرى، وفهم متأصل لمنظور الصين في العالم، وتحت كل ذلك، كان لديه ولاء لا يتزعزع لمصالح أميركا.
هناك ثلاثة دروس مهمة يمكن استخلاصها من النهج الذي اتبعه كيسنجر في التعامل مع الصين. أولاً: لا تشكل الصين تهديداً كبيراً للولايات المتحدة، ولا يبدو أنها تتمتع – ببساطة – بالطموح العالمي، أو القدرة المؤسسية، أو التقاليد التاريخية، أو الوضوح الأيديولوجي اللازم لتحل محل الولايات المتحدة وتتصرّف مثلها اليوم، فموقعها الجغرافي لا يساعد. وخلال مناظرة تورونتو، قال كيسنجر ببلاغة: انظروا إلى خريطة العالم. الصين تحدها 14 دولة، كم منها يمكن للصين أن تعتمد عليها كأصدقاء مخلصين؟ ما هو حجم الطاقة المتبقية لدى الصين لإنفاقها على إدارة الشؤون العالمية بعد التعامل مع جيرانها؟ وعلى النقيض من ذلك، فإن الولايات المتحدة لديها اثنتان فقط.
• في غضون سنوات قليلة، أدركتُ كم كنت مخطئاً. لقد ساعد التواصل الأميركي الذي صاغه هنري كيسنجر في تحفيز عقود من التغيرات السياسية المعقّدة في الصين، الأمر الذي أدى إلى عصر من الإصلاح والانفتاح، أفضى في نهاية المطاف إلى انتشال 800 مليون شخص من الفقر، وفتح أعين وعقول مزيد من الناس.
ديفيد داوكوي لي – أستاذ الاقتصاد بجامعة تسينغهوا في بكين