على أريكة مستطيلة داخل منزله الكائن في حي النصر شمال مدينة غزة، يتكئ الشاب الفلسطيني محمد الدلو (28 عاماً) على جزء بسيط منها، فيما تنتشر العشرات من لوحاته الفنية إلى جانبه على كامل ما تبقى منها من مساحة، ويعكف محمد على رسم لوحات فنية جديدة، ظلت تشغل حيزاً كبيراً من اهتماماته اليومية على مدار ساعات طوال، والتي تحاكي إبداع الصغر، متحدياً بواسطة ذلك إعاقة كانت قدره منذ المهد.
الفنان الفلسطيني الشاب محمد الدلو، الذي لم تلمس قدماه الأرض، ولم يستقم جسده مطلقاً، ولد مصاباً بضمور في العضلات، وزنه لا يتعدى 25 كيلوغراماً، ولا يتحكم إلا بثلاثة من أصابع يديه، كانت سبيله لرسم مئات اللوحات الفنية التي غزت منصات التواصل الاجتماعي، محققةً الملايين من مشاهدات المتابعين.
بداية العزيمة
قضت «الإمارات اليوم» رفقة الشاب محمد داخل بيته وقتاً كان كافياً ليثبت خلاله صلابة إرادته الفريدة من نوعها في هزيمة أوجاع إعاقته التي جعلته مختلفاً عن غيره من الأصحاء شكلاً ومضموناً، فما خطته أصابعه الثلاثة يعجز عن فعله من كانت جميع أطرافه ذات صحة سليمة. ويقول الفنان الدلو بابتسامة عريضة أخفت آلام أعوام طويلة: «إنني راضٍ تمام الرضا بما قدره الله لي، فضآلة جسدي، وإعاقته، لم تكن حجر عثرة أمام طموحاتي الكبيرة، فلم أيأس جراء ذلك، ولم أشعر بأي حرج بين فئات المجتمع على الإطلاق».
ويكمل محمد حديثه سارداً بداية مشواره الفني: «رغم الأمراض التي غزت جسدي الضئيل منذ الولادة تفوقت في دراسة المرحلتين الابتدائية والإعدادية، إلا أنها نالت مني منذ الأيام الأولى لمرحلة الثانوية العامة، حيث تدهورت حالتي الصحية بشكل كبير، فمكثت وقتاً طويلاً داخل المستشفى، ليكون ذلك العائق الأكبر أمام استكمال رحلتي الدراسية».
ويضيف: «بعد التوقف عن الدراسة بسبب تدهور حالتي الصحية بلغت مرحلة إثبات الذات، والانتصار على إعاقتي التي كانت سبباً في التوقف عن استكمال الدراسة، لكنها لم تعدم طموحاتي الكبيرة، لأشق طريقي بتطوير موهبتي في فن الرسم، فكانت تلك بدايتي في الفن التشكيلي، وفن (الأنميشين) أو (الأنمي)، وهي أعمال الرسوم المتحركة، منذ ذلك الوقت».
وفي هذه المرحلة أسهم والدا محمد في معركة انتصاره على إعاقته بالفن، فبديلاً لقدميه جعلا أكفهما سبيله في الوصول إلى الجهة التي يريد، ولم يدخرا أي جهد في دعم موهبته، لتبصر النور، إذ وفرا له جميع متطلبات رسوماته الفنية من أقلام ودفاتر رسم وأوراق غالية الثمن حتى أضحى علامة فارقة في عالم الفن والرسم.
صوت أصحاب الهمم
«بواسطة المئات من لوحاتي الفنية أعبر عن هموم أصحاب الهمم داخل فلسطين المحتلة وخارجها، وطموحاتهم الكبيرة، فكانت البداية بأفكار جمة راودتني، ترجمتها إلى رسومات فنية مميزة». يقول الشاب الدلو. ونتاج ذلك كان حاضراً في أول معرض فني في قطاع غزة لرسومات الأنميشين المتحركة، نفذه محمد عام 2015 باسم «الأنمي حياتي»، والذي عبر خلاله عن صوت أصحاب الهمم إلى شتى بقاع الأرض. ويواصل الدلو حديثه: «معرض (الأنمي حياتي) يعكس هموم هذه الفئة في المجتمع، فكان بمثابة رسالة أصحاب الهمم التي اجتازت الحدود لتثبت أنهم يمتلكون قدرات جمة تنطق إبداعاً لا حدود لبدايته ونهايته».
وعلى النسق ذاته أعاد الفنان الفلسطيني الكرة بمعرض ثانٍ شارك خلاله برسومات «الأنمي» عام 2017، حمل اسم «أمنياتي»، جسد من خلاله كامل جوانب الحياة اليومية لأصحاب الهمم في غزة المحاصرة. ويسترسل الفنان الشاب: «إن معرض (أمنياتي) كان العلامة الفارقة في مسيرتي الفنية سابقاً ولاحقاً، لتتكرر المعارض التي احتضنت مشاركة رسوماتي الفنية، والتي تخطت 17 مشاركة، حققت خلالها نجاحاً مبهراً، شهد عليه الآلاف من رواد تلك المعارض».
نجاح تلو الآخر
بالرجوع إلى المرحلة التي سبقت إبداعه في رسم لوحات فن «الأنمي»، يسرد محمد خطواته الأولى في مشواره الفني: «إن البداية في جميع المجالات لا تخلو من الصعاب على الإطلاق، لكنها تكون جميلة بمواجهة التحديات، فتهزمها، وتنطلق بهمة عالية لتحقيق نجاح تلو الآخر، فتتلاشى كل العقبات وكأنها لم تكن منذ البداية».
ويمضي محمد بالقول: «إن مشواري الفني انطلق بريشة وقلم رصاص، ثم توالت اللوحات، لأنتقل إلى مرحلة الرسم الكرتوني، فكنت أتسلل في عتمة الليل والكل في المنزل نيام، صوب جهاز الحاسوب الوحيد في المنزل، لأنهل المزيد من علوم عالم (الأنمي) الفني».
ويضيف: «خلال ذلك لا أتذكر عدد الساعات التي كنت تمر وأنا على هذه الشاكلة، إذ تشرق الشمس ويستيقظ الجميع من النوم ولاأزال أبحر في بحار الفن التي لا تجف أبداً حتى أتقنت رسم لوحات فن (الأنمي) بلا منازع».
وبالعودة إلى المرحلة التي أبدع خلالها في رسومات «الأنمي» الفنية، انطلق محمد إلى مرحلة فنية جديدة مزج فيها بين «الأنمي» والفن التعبيري، ليحلق بعد ذلك بإبداع منقطع النظير في فضاء فن «الماندالا» العالمي، وهو عبارة لوحات فنية دائرية ترسم بواسطة الملايين من حبيبات الرمل المصبوغ بالطلاء.
• انطلق محمد إلى مرحلة فنية جديدة مزج فيها بين «الأنمي» والفن التعبيري، ليحلق بعد ذلك في فضاء فن «الماندالا» العالمي.
• بالرجوع إلى المرحلة التي سبقت إبداعه في رسم لوحات فن «الأنمي»، يسرد محمد خطواته الأولى في مشواره الفني: «إن البداية في جميع المجالات لا تخلو من الصعاب على الإطلاق، لكنها تكون جميلة بمواجهة التحديات، فتهزمها، وتنطلق بهمة عالية لتحقيق نجاح تلو الآخر، فتتلاشى كل العقبات وكأنها لم تكن منذ البداية».