لم يعد القطب الشمالي في مأمن من التوترات العسكرية التي تشهدها بقية أنحاء العالم، وفي الواقع ترتفع درجات الحرارة هنا بمعدل أسرع أربع مرات تقريباً من بقية أنحاء الكوكب، وهذه مجرد قراءة مقياس الحرارة، ولكن عندما يتعلق ذلك بالأمور الجيوسياسة فإن هذه المنطقة الأكثر برودة في العالم يمكن أن تصبح الأكثر سخونة، ففي خطاب ألقاه أخيراً أمام مجلس القطب الشمالي، (منتدى أنشئ عام 1996 لتقريب الشُقة بين روسيا ما بعد الاتحاد السوفييتي والغرب)، حذر رئيس اللجنة العسكرية في حلف شمال الأطلسي (ناتو) الأدميرال روب باور، قائلاً: «لا يمكننا أن نكون ساذجين ونتجاهل النوايا الشريرة المحتملة لبعض الجهات الفاعلة في المنطقة». وأضاف بشكل ينذر بالسوء أن: «الصراع يمكن أن يظهر في أي لحظة، وفي أي مجال، بما في ذلك في القطب الشمالي».
لم يكن ذلك مبالغة، حيث تعمل العسكرة المتزايدة في المنطقة، والتي تغذيها التوترات الدولية المختلفة، على تفاقم الجهود الرامية إلى الاستفادة من الإمكانات الاستراتيجية والاقتصادية للمنطقة. ويعمل ذوبان الجليد أيضاً على إنشاء ممرات نقل جديدة وإتاحة الموارد الطبيعية للاستغلال، ما يجعل السيطرة الاستراتيجية على القطب الشمالي أكثر إغراءً من أي وقت مضى.
توتر متصاعد
على بعد بضع مئات من الأميال من ميناء ترومسو النرويجي، تقع شبه جزيرة كولا الروسية التي تعد موطناً للأسطول الشمالي للبلاد، حيث تحشد روسيا العديد من غواصات الصواريخ الباليستية والطرادات والمدمرات والفرقاطات والقوات والمطارات، وغيرها من الأصول العسكرية، بالقرب من حدود «الناتو».
نهاية الأسبوع الماضي، أصدر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تهديداً مستتراً لفنلندا، وهي واحدة من ثماني دول في القطب الشمالي، وأحدث عضو في «الناتو»، محذراً من أنه «ستكون هناك مشكلات» بين البلدين الآن بعد انضمام هلسنكي إلى الحلف. وقال إن روسيا ستركز قريباً وحداتها العسكرية بالقرب من الجزء الشمالي من الحدود المشتركة بين البلدين.
وقبل أسابيع قليلة، أغلقت فنلندا معابرها الحدودية مع روسيا، متهمة موسكو بشن «عملية هجينة» تتمثل في تسليح المهاجرين اليائسين من خلال مساعدتهم على الوصول إلى الحدود الأوروبية المتجمدة في القطب الشمالي، في محاولة لزعزعة استقرار الاتحاد الأوروبي.
وفي مقابلة مع وسائل الإعلام الرسمية، ادعى بوتين أنه لم تكن هناك مشكلات بين البلدين قبل انضمام فنلندا إلى الحلف، بعد أن تم حل نزاعاتهما الإقليمية في القرن الـ20. وتعلم فنلندا جيداً كيف تم حل المشكلة، حيث سيطرت روسيا بعد حرب الشتاء الشرسة في الفترة من 1939 إلى 1940، على أجزاء من فنلندا، وعندما أعلنت روسيا الحرب على أوكرانيا العام الماضي قررت فنلندا أن الحياد لا يضمن السلامة، وكانت بحاجة إلى الحماية، ووجدت ضالتها في الانضمام إلى «الناتو».
نموذج للتعايش
تزايدت التوترات على طول القطب الشمالي بشكل كبير منذ اندلاع حرب روسيا على أوكرانيا عام 2022، لكن المشكلات كانت تتصاعد قبل ذلك بوقت طويل. ولعقود من الزمن، بدت المنطقة الواقعة على قمة الكرة الأرضية كأنها مكان خاص، حيث يمكن للقوى العالمية أن تجتمع معاً من أجل المصلحة العامة، وبدا مجلس القطب الشمالي كأنه نموذج للتعايش، وسعت المجموعة، المكونة من الدول الثماني التي تقع داخل منطقة القطب الشمالي والشعوب الأصلية (كندا، الدنمارك، فنلندا، أيسلندا، النرويج، روسيا، السويد، الولايات المتحدة) إلى تعزيز السلام والاستقرار والتنمية المستدامة، وحماية المنطقة.
ولكن بحلول مطلع القرن الـ20، اتخذت العلاقات بين الغرب وروسيا، وبعد ذلك مع الصين، كما هي الحال الآن، منحى سلبياً. وبالنظر إلى الماضي، يزعم بعض المراقبين أن روسيا استغلت الوضع في القطب الشمالي، وفي حين أنها صرحت علناً بالتزامها بالتعاون السلمي، أطلقت في الوقت نفسه حشداً عسكرياً هائلاً استعداداً للسيطرة على المنطقة.
وبعد فترة وجيزة، قامت روسيا بتسريع أنشطتها العسكرية والتجارية في المنطقة، وفي تجاهل صارخ لمعايير السلامة البيئية، بدأت روسيا في استخدام ناقلات النفط ذات الهياكل الرقيقة بدلاً من ناقلات النفط الجليدية، لنقل النفط الخام عبر المنطقة. ويرتعد المرء حين يتخيل ما يمكن أن يفعله تسرب نفطي كبير لهذه المنطقة البكر من العالم.
طريق الحرير القطبي
وخلال قمة بين بوتين والزعيم الصيني شي جين بينغ في مارس، اتفق البلدان على التركيز على القطب الشمالي، فيما يبدو فتح جبهة جديدة ضد الغرب. وتشير بعض التقديرات إلى أن الصين استثمرت 90 مليار دولار في المنطقة. وتعمل موسكو وبكين معاً لبناء «طريق الحرير القطبي» بأهداف اقتصادية وجيوسياسية وعسكرية، وتقوم الصين بصياغة حجة دون حسيب أو رقيب لتصبح لاعباً فاعلاً في المنطقة، معلنة نفسها «دولة قريبة من القطب الشمالي».
ويرى «الناتو» أن الأمر برمته مثير للقلق، وفقاً للأدميرال باور، «لأنه في حين أصبحت نوايا روسيا في القطب الشمالي واضحة في السنوات الأخيرة، فإن نوايا الصين «لاتزال غامضة»، وفي الوقت نفسه نددت موسكو بتوسيع حلف «الناتو» شرقاً، والآن فإن انضمام فنلندا وربما السويد إلى الحلف من شأنه أن يجعل روسيا الدولة الوحيدة في القطب الشمالي خارج حلف شمال الأطلسي.
الآن لم يعد القطب الشمالي في النرويج مجرد مكان لمشاهدة مجموعات من الحيتان وهي تبحث عن سمك الرنجة بين المضايق الجليدية المرتفعة، حيث تقوم القوات العسكرية التابعة للناتو أيضاً بزيارات متكررة، رداً على المناورات الاستفزازية التي ينظمها الوجود العسكري الروسي الضخم، إلا أنه في سبتمبر، شاهد سكان ترومسو غواصة تابعة للبحرية الفرنسية تخرج من مياهها، وبعد أيام تم الترحيب هنا أيضاً بغواصة أميركية. ورداً على الاستفزازات الروسية من المقرر أن تستضيف الدول الاسكندنافية قريباً مناورات عسكرية هائلة تحت عنوان «الرد الشمالي»، بمشاركة نحو 20 ألف جندي من 14 دولة.
قد تبدو المنطقة القطبية الشمالية – أقصى خط العرض الشمالي – بمناظرها الطبيعية المثيرة وظواهرها الجوية الغريبة وطبيعتها التي لاتزال نقية، كأنها ملاذ آمن من كوكب عاصف، لكن هذه الواحة، التي تبدو كأنها عالم آخر، جزء كبير من هذا العالم. إن الاضطرابات التي تعصف بالكوكب تأخذ طريقها الآن إلى قمة الكرة الأرضية، ومن المرجح أن تزداد التوترات في أقصى الشمال حتى بعد انحسار بعض الصراعات التي تتصدر العناوين الرئيسة اليوم.
في أكتوبر 2021 تولت روسيا الرئاسة الدورية للمجلس، وفي حديثه أمام الجمعية السنوية لدائرة القطب الشمالي في ريكيافيك، أيسلندا، أوضح نيكولاي كورتشونوف، وهو مسؤول روسي كبير في القطب الشمالي، خطط موسكو. وقال إنه خلال رئاسة روسيا «سنواصل تعزيز التعاون البناء والحفاظ على السلام والاستقرار»، ولكن بعد بضعة أشهر أعلنت روسيا الحرب على أوكرانيا، وتجمد عمل مجلس القطب الشمالي، وأصبح مستقبله موضع شك.
عن «سي إن إن»
. الاضطرابات التي تعصف بالكوكب تأخذ طريقها الآن إلى قمة الكرة الأرضية، ومن المرجح أن تزداد التوترات في أقصى الشمال حتى بعد انحسار بعض الصراعات التي تتصدر العناوين الرئيسة اليوم.
. تزايدت التوترات على طول القطب الشمالي بشكل كبير منذ اندلاع حرب روسيا على أوكرانيا عام 2022، لكن المشكلات كانت تتصاعد قبل ذلك بوقت طويل.