يقول محللون إن كوريا الجنوبية، صاحبة أدنى معدل مواليد في العالم، قد تجد نفسها قريباً من دون قوات كافية لإبقاء جيشها بكامل أفراده في الوقت الذي تسعى فيه للتعامل مع التهديدات الجديدة في منطقة غرب المحيط الهادئ المتوترة بشكل متزايد.
وحيث إن كوريا الجنوبية حذرة دائماً من التهديدات النووية والصاروخية لكوريا الشمالية، فإنها تحتفظ بقوة عاملة قوامها نحو نصف مليون جندي. ولكن مع معدل مواليد يبلغ 0.78 طفل فقط لكل امرأة على مدى العمر، قد تكون هذه المعضلة أكبر عدو لكوريا الجنوبية في الوقت الحالي، ويقول خبراء إنه ليس أمامها خيار سوى تقليص حجم قواتها.
وتتوقع بيانات الحكومة أن تشهد البلاد انخفاضاً في عدد السكان، حيث سيتراجع حجم السكان إلى مستويات السبعينات «وإذا أخذنا في الحسبان معدل المواليد الحالي، فإن المستقبل محدد سلفاً». كما يقول أستاذ الأمن القومي بجامعة سانجميونج، تشوي بيونغ أوك، مضيفاً أن تقليص حجم القوة سيكون أمراً لا مفر منه. ويعتقد أنه للحفاظ على مستويات القوات الحالية، يحتاج الجيش الكوري الجنوبي إلى تجنيد 200 ألف جندي سنوياً.
لكن في عام 2022، ولد أقل من 250 ألف طفل. وإذا افترضنا أن معدل الذكور والإناث المولودين هو 50 إلى 50، فإن هذا يعني أنه في غضون 20 عاماً، عندما يصل هؤلاء الأطفال إلى سن الالتحاق بالجيش، سيكون هناك نحو 125 ألف رجل فقط متاحين لـ200 ألف شاغر في الجيش.
ولا يتم تجنيد النساء في كوريا الجنوبية، وتمثل المتطوعات 3.6% فقط من الجيش الكوري الحالي، وفقاً لأرقام وزارة الدفاع. ومن المتوقع أن ينخفض العدد السنوي للأطفال حديثي الولادة أكثر إلى 220 ألفاً في عام 2025، و160 ألفاً في عام 2072، وفقاً لهيئة الإحصاء الكورية.
التحضير لعقدين من الزمن
وفي حين أن انخفاض معدل المواليد في كوريا الجنوبية كان يتصدر عناوين الأخبار في السنوات الأخيرة، إلا أن الجيش توقع ذلك قبل فترة، ويسعى للاستعداد له. ففي أوائل العقد الأول من القرن الـ21، قررت سيؤول طوعاً خفض عدد الجنود العاملين من 674 ألف جندي في عام 2006 إلى 500 ألف بحلول عام 2020، استناداً إلى فرضية مفادها أن «التهديد الذي تمثله كوريا الشمالية سيتضاءل تدريجياً»، وتعزيز قوة عسكرية أصغر، ولكن أكثر نخبوية، وفقاً للكتاب الأبيض لوزارة الدفاع 2022، وقد حققت المؤسسة العسكرية الكورية الجنوبية هذا الهدف، حيث خفضت حجم القوات بنسبة 27.6% في غضون عقدين من الزمن، من عام 2002 إلى عام 2022، لكن الفرضية القائلة بأن التهديد الذي تمثله كوريا الشمالية سيتضاءل ثبت أنها خاطئة.
وصل الرئيس الكوري الشمالي، كيم جونغ أون، إلى السلطة في بيونغ يانغ في عام 2011. وعلى الرغم من فترات الهدوء القصيرة أثناء تفاوضه مع كوريا الجنوبية والولايات المتحدة للحد من التوترات، فقد دفع إلى تعزيز هائل في قواته العسكرية، خصوصاً في برامجها للصواريخ الباليستية.
وبعد اختبار كوريا الشمالية لصاروخها الباليستي الخامس العابر للقارات هذا العام، حذر كيم من أن بلاده لن «تتردد» في شن هجوم نووي إذا تعرضت للاستفزاز من العدو بأسلحته النووية، في إشارة إلى نشر منصات أسلحة أميركية ذات قدرة نووية في كوريا الجنوبية، وفي جميع أنحاء شبه الجزيرة الكورية، حسبما ذكرت وكالة الأنباء المركزية الكورية في وقت سابق من هذا الشهر.
ولكن إذا هاجم كيم عبر خط العرض 38، الذي يقسم كوريا الشمالية والجنوبية بعد هدنة عام 1953 التي أوقفت الحرب الكورية، فإن الجيش الكوري الجنوبي هو الذي سيتحمل العبء الدفاعي الأكبر. ويقول الخبراء إن كوريا الجنوبية يجب أن تتجه للتقنية لمواجهة التهديد الكوري الشمالي، وتحويل أزمة القوى العاملة إلى تحول تكنولوجي. ويقول الفريق السابق في الجيش الكوري الجنوبي، تشون إن بوم «لقد كانت لدى سلطات الدفاع الكورية الجنوبية سياسة طويلة الأمد، مفادها أننا سننتقل من جيش يركز على القوى البشرية إلى جيش موجه نحو التكنولوجيا».
في عام 2005، أصدرت وزارة الدفاع في كوريا الجنوبية خطة لتطوير جيشها إلى قوة تركز على العلوم والتكنولوجيا بحلول عام 2020، ولكن التقدم كان ضئيلاً. ويقول تشوي في ذلك «على الرغم من أن الجيش كان يحاول إجراء عملية انتقالية، لم يكن هناك إصرار، لأنه يعتقد أن لديه الكثير من الموارد البشرية».
لكن حرب روسيا في أوكرانيا أظهرت أن الأعداد الهائلة من القوات ليست كافية في ساحة المعركة الحديثة. ومن بين 360 ألف جندي كانوا يشكلون القوات البرية الروسية قبل الحرب، بمن في ذلك الأفراد المتعاقدون والمجندون، خسرت موسكو 315 ألف جندي، وفقاً لتقييم حديث لوزارة الدفاع الأميركية. وقد أدى استخدام أوكرانيا للطائرات بدون طيار والأسلحة عالية التقنية التي زودها بها الشركاء الغربيون إلى خسائر مميتة في أعداد قوات موسكو.
وتركز كوريا الجنوبية على دمج التقنيات الجديدة في وحداتها القتالية. وقالت وزارة الدفاع العام الماضي إنها ستنتقل تدريجياً إلى نظام قتالي قائم على الذكاء الاصطناعي، وأدخلت لواء «تايجر» في الجيش، أو ما يسمى «وحدة المستقبل»، الذي يستخدم كلاً من القوى البشرية والمعدات غير المأهولة لتنفيذ المهام.
كما تعمل كوريا الجنوبية أيضاً على تطوير معدات عسكرية غير مأهولة، بما في ذلك المركبة الجوية بدون طيار متوسطة الارتفاع «مواف»، والمركبة بدون طيار تحت الماء «يو يو في».
ويقول خبراء إن القوات البشرية لا غنى عنها، ويؤكد تشون إن التكنولوجيا ليست حلاً سحرياً. على سبيل المثال، للاستيلاء على الأراضي والاحتفاظ بها لابد من تكليف قوة بشرية، ولإدارة أنظمة الذكاء الاصطناعي للاشراف على ساحة المعركة يتطلب الأمر أيضاً أشخاصاً مدربين تدريباً جيداً. ويقول تشون عن التكنولوجيا «مهما حاولنا، قد تساعد التقنية، لكنها لن تحل المشكلة التي نفتقر إليها».
ويقول تشون «نحن بحاجة إلى تجديد نظام التعبئة، حيث سنكون قادرين على الاستفادة من العدد الكبير من السكان الاحتياطيين». وبعد أن ينهي الرجال الكوريون الجنوبيون خدمتهم العسكرية الإلزامية، التي تراوح بين 18 إو21 شهراً، يصبحون جنوداً احتياطيين لمدة ثماني سنوات. وخلال هذا الوقت، يتم استدعاؤهم إلى الوحدات المخصصة مرة واحدة سنوياً لتذكيرهم بمناصبهم وواجباتهم، وبعد ذلك يخضعون للمشاركة في تدريبات الدفاع المدني كل عام حتى سن الـ40.
وثمة خيار آخر، يتمثل في زيادة عدد الكوادر المهنية وضباط الصف، وجميعهم من المتطوعين، الذين يخدمون لفترات أطول، حيث يصبحون خلالها على دراية جيدة بتشغيل الأسلحة المتقدمة «لمنع حدوث فجوة في القدرة القتالية». وقام الجيش بزيادة نسبة الكوادر بين إجمالي قوته من 31.6% في عام 2017 إلى 40.2% في عام 2022، وفقاً لوزارة الدفاع. ومن المقرر إجراء زيادة أخرى إلى 40.5% بحلول عام 2027.
عدم جاذبية العمل في الجيش
إحدى مشكلات هذه الخطة هي أن السكان لا يتقبلونها، فقد انخفض عدد المتقدمين لشغل مناصب الضباط على مر السنين، وفقاً لبيانات وزارة الدفاع. ويقول تشوي «يواجه الجيش صعوبة كبيرة في تأمين كوادر مهنية متميزة من المبتدئين الذين سيشكلون، خلال 10 أو 20 عاماً، هيئة ضباط متميزة»، مشيراً إلى أن المزايا المالية والاجتماعية غير الكافية للكوادر هي السبب الرئيس.
تجنيد النساء
تجنيد النساء يمكن أن يحل مشكلة كوريا الجنوبية، لكن هناك الكثير من العوائق أمام هذا المجتمع الأبوي التقليدي. وحتى إذا تم التغلب على هذه المشكلات، فقد يكون الأمر مكلفاً للغاية. ويعتقد شوي أن «هناك العديد من العوامل المعقدة، مثل التكاليف الاجتماعية وولادة النساء. لذلك، أعتقد أن الكلفة ستكون أعلى بكثير من العائد الفعلي». لكن تشون يعتقد أن جذب المتطوعات أمر ممكن إذا كان الأجر جذاباً بما فيه الكفاية.