لا يعد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أول رئيس تصدر بحقه مذكرة اعتقال دولية بتهمة المسؤولية عن ارتكاب جريمة حرب متمثلة في ترحيل أطفال أوكرانيين، مئات على الأقل وربما أكثر، إلى روسيا، ولكن احتمالات مثوله أمام المحكمة الجنائية الدولية تبدو منعدمة نظراً لمجموعة من الأسباب، أهمها أن روسيا ليست طرفاً في نظام المحكمة الدولية، وثانيها أن كثيراً من الدول في آسيا وافريقيا وأميركا اللاتينية ترفض التعاون مع قرارات المحكمة لأنها تعتبرها مسيسة، كما أن بعض الدول حتى في أوروبا اعتبرت قرار المحكمة سبباً لتوتير الأجواء وإطالة أمد الحرب وليس إسهاماً في تخفيف التوتر والوصول إلى حل للصراع. وسنحاول من خلال التحقيق التالي استعراض وجهات نظر الأطراف كافة وفرص تطبيق قرار المحكمة.
المحلل الأميركي مارتي فلاكس: هذه ليست المرة الأولى التي تلاحق فيها المحكمة رئيس دولة
مذكرة اعتقال بوتين تضع أميركا في مـــــأزق كبير
قبل أيام وبناء على طلب رئيس الإدعاء في المحكمة الجنائية الدولية، كريم خان، أصدر قضاة المحكمة مذكرة اعتقال في حق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ومفوضة حقوق الأطفال الروسية ماريا لفوفا بيلوفا. ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي تلاحق فيها المحكمة رئيس دولة، لكن الرئيس بوتين هو الشخصية الأبرز التي تصدر المحكمة مذكرة اعتقال بحقه، خلال تاريخها الممتد 22 عاماً.
3 أسئلة
يقول مدير مبادرة حقوق الإنسان في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية بواشنطن، مارتي فلاكس، في تحليل نشره موقع المركز، إن قضية بوتين ستكون واحدة من أكثر القضايا التي تنظرها المحكمة الجنائية الدولية تعقيداً. كما يطرح ثلاثة أسئلة حيوية، تلقي الضوء حول كيفية صدور مذكرة الاعتقال، وكيفية تداول القضية، وما تعنيه بالنسبة لجهود محاسبة القادة الروس عن أفعالهم في أوكرانيا.
ويبدأ فلاكس أسئلته بسؤال عن كيفية حصول المحكمة على الولاية القضائية للتحقيق مع بوتين، ليجيب بأن أوكرانيا وروسيا ليستا عضوين في المحكمة الجنائية الدولية، وهي العضوية التي تمنح المحكمة الولاية القضائية التلقائية، للتحقيق في أفعال روسيا أثناء حربها في أوكرانيا، لكن أوكرانيا بعد الاجتياح الروسي لشبه جزيرة القرم عام 2015، منحت المحكمة الولاية القضائية للتحقيق في الجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الحرب التي ارتكبتها القوات الروسية على الأراضي الأوكرانية، ونتيجة لذلك وبعد مطالبة 39 دولة عضواً في المحكمة بالتحقيق في جرائم الحرب التي ارتكبتها القوات الروسية في أوكرانيا، استطاع رئيس الإدعاء، كريم خان، فتح التحقيق في غضون أسابيع من بداية الحرب في أواخر فبراير 2022. وخلال العام الماضي جمع خان أكبر فريق تحقيق في تاريخ المحكمة، مع وجود محققين دائمين في أوكرانيا. وزار خان نفسه أوكرانيا مرات عدة. وكان هذا التحقيق الواسع واحداً من عدد قليل من التحقيقات التي أجريت في ظل استمرار الصراع، بفضل دعم غير مسبوق من الحكومة الأوكرانية وتعاون العديد من الحكومات الأوروبية.
الاتهامات
أما السؤال الثاني الذي يحاول فلاكس الإجابة عنه فيتعلق بالاتهامات الموجهة إلى بوتين وأسبابها. ويقول إن بوتين ولفوفا بيلوفا متهمان بارتكاب جريمتي حرب وفقاً لاتفاقية روما المؤسسة للمحكمة الجنائية الدولية، بسبب إشرافهما على النقل القسري لعدد من الأطفال الأوكرانيين من الأراضي التي احتلتها روسيا في شرق أوكرانيا إلى روسيا. ويتم استخدام نقل أو ترحيل السكان من الأراضي المحتلة أثناء أي صراع دولي مسلح من أجل إضعاف المقاومة الداخلية، وتسهيل السيطرة على الأراضي المحتلة، وهذا العمل يعتبر جريمة حرب وفقاً للقانون الدولي. كما أن حجم وأهداف عملية الترحيل يمكن أن تحولها من جريمة حرب إلى جريمة ضد الإنسانية، وجريمة إبادة، وهي التهمة التي لم توجه إلى بوتين حتى الآن.
ورغم أن التقارير عن عمليات النقل القسري للسكان من المناطق التي تحتلها روسيا في شرق أوكرانيا ظهرت منذ بدايات الحرب، فإن الشهور الأخيرة شهدت ظهور معلومات مفصلة عن المدى الكامل لهذه العمليات، وفئات السكان الأشد تضرراً منها. وفي نوفمبر الماضي نشرت وكالة «أسوشيتد برس» للأنباء تحقيقاً كشف العديد من القصص المفزعة للعائلات التي تضررت من الترحيل، في حين نشرت كلية ييل الأميركية للصحة العامة يوم 14 فبراير الماضي تقريراً يقدم أدلة موثقة عن نقل 6000 طفل على الأقل دون ذويهم إلى روسيا منذ بداية الحرب، حيث يتم التركيز على الأطفال الأيتام أو المنفصلين عن آبائهم، وهو ما يجعل هذا البرنامج مخيفاً بالفعل، وهو ما جعل الادعاء في المحكمة الجنائية الدولية يبدأ بهذه الاتهامات.
مسؤولية شخصية
كما أن من بين أسباب البدء بهذه التهمة في ملاحقة بوتين أن المحكمة الجنائية الدولية تستهدف بشكل أساسي كبار المسؤولين المتورطين في أخطر الجرائم الدولية. في الوقت نفسه فإن معايير المسؤولية الجنائية الشخصية للمتهم عالية للغاية؛ ولذلك على الادعاء اثبات تورط المسؤول بشكل شخصي في ارتكاب الجريمة محل الاتهام، كأن يكون قد ارتكبها بنفسه أو أمر بها أو استخدمها أو تجاهل بشكل متعمد ارتكاب مرؤوسيه المباشرين لها. ورغم أنه قد يبدو أن بوتين هو الذي يصدر الأوامر بشأن جرائم الحرب، التي ترتكب في أوكرانيا، فإنه يتوجب على الادعاء الربط بين الأشياء المختلفة وتجميعها معاً أمام المحكمة بما يتيح الربط المباشر بين بوتين وتلك الجرائم حتى تتسنى إدانته.
ماذا بعد؟
أما السؤال الثالث والأخير فيتعلق بماذا بعد توجيه الاتهام وإصدار مذكرة اعتقال بحق بوتين.
ويقول فلاكس إن هذه القضية مجرد بداية، وإن المحكمة الجنائية الدولية ستوجه المزيد من الاتهامات لكل من كبار المسؤولين الروس المدنيين والعسكريين، وربما لبوتين نفسه مرة أخرى. وتقول التقارير الإخبارية إن المدعي العام خان يعمل حالياً على التحقيق في استهداف روسيا للبنية التحتية ومنها محطات الطاقة في أوكرانيا. في الوقت نفسه حدد الادعاء العام في أوكرانيا أكثر من 65 ألف جريمة حرب يقول إن القوات الروسية ارتكبتها. وعدد قليل للغاية من هذه الاتهامات سيصل إلى المحكمة الجنائية، في حين ستنظر المحاكم الأوكرانية والأوروبية المئات وربما الآلاف منها خلال السنوات المقبلة.
مجرد بداية
هذه مجرد بداية للقضية الجارية ضد بوتين وقد تظل كذلك بعض الوقت، فالمحكمة الجنائية الدولية لا تحاكم أحداً غيابياً، لذلك تحتاج إلى استسلام بوتين لها، أو القبض عليه من جانب أي حكومة متعاونة مع المحكمة، لكي تبدأ نظر القضية، فالمحكمة لا تمتلك جهاز شرطة ولا قوة لإنفاذ القانون، وإنما تعتمد على السلطات المحلية للدول الأعضاء لتنفيذ قراراتها.
وبالطبع ستواجه الدول الأعضاء في المحكمة ضغوطاً قانونية وسياسية لكي تقبض على بوتين إذا زار إحدى هذه الدول، رغم أن سجل تعامل دول العالم مع قرارات المحكمة الدولية بما في ذلك قرار اعتقال الرئيس السوداني السابق عمر البشير في عام 2009 لا يشير إلى احتمال وجود مثل هذا التعاون، خصوصاً أن بوتين بالطبع لن يفكر في زيارة الولايات المتحدة وحلفاءها في أوروبا وآسيا، وهي الدول التي قد تكون أكثر استعدداً لتنفيذ مذكرة الاعتقال.
زيادة الضغوط
ولعل من أهم نتائج مذكرة اعتقال الرئيس بوتين زيادة الضغوط على الولايات المتحدة لكي تحدد المساعدة التي يمكنها تقديمها للمحكمة الجنائية الدولية، فالعلاقة بين الولايات المتحدة والمحكمة الدولية منذ إنشائها عام 1998 تراوح بين التجاهل والعداء، بما في ذلك فرض عقوبات أميركية على رئيس الادعاء السابق في المحكمة، وتمرير قانون في الكونغرس يتيح استخدام القوة العسكرية لإطلاق سراح أي مواطن أميركي تقبض عليه المحكمة الجنائية الدولية، لكن الصراع في أوكرانيا غير التوجهات نحو المحكمة داخل الكونغرس الأميركي.
ففي أواخر 2022 خفف الكونغرس القوانين التي تحد من تعاون الولايات المتحدة مع المحكمة في حالة أوكرانيا، كما أعلن كل من الجمهوريين والديمقراطيين دعمهم لتحقيقات المحكمة في جرائم الحرب بأوكرانيا.
المفارقة أن إدارة الرئيس بايدن هي التي تعرقل التعاون، لأن وزارة الدفاع الأميركية ترفض تبادل المعلومات الاستخباراتية بشأن جرائم الحرب الروسية في أوكرانيا، خوفاً من أن تمثل سابقة لأي قضايا مستقبلية ضد مواطنين أميركيين. وعندما يجتمع وزراء العدل من مختلف دول العالم في لندن خلال الأسبوع الجاري لإعلان دعم تحقيقات المحكمة الجنائية الدولية في أوكرانيا، ستتزايد الضغوط على الولايات المتحدة لكي تتخذ قراراً نهائياً في هذا الأمر، وهو ما يعني أن مذكرة اعتقال بوتين وضعت الولايات المتحدة في مأزق كبير.
■ التحقيق الواسع الذي أجراه خان كان واحداً من عدد قليل من التحقيقات التي أجريت في ظل استمرار الصراع، بفضل دعم غير مسبوق من الحكومة الأوكرانية وتعاون العديد من الحكومات الأوروبية.
■ 65
ألف جريمة حرب يقول الادعاء العام في أوكرانيا إن القوات الروسية ارتكبتها.
■ رغم أنه قد يبدو أن بوتين هو الذي يصدر الأوامر بشأن جرائم الحرب التي ترتكب في أوكرانيا، فإنه يتوجب على الادعاء الربط بين الأشياء المختلفة وتجميعها معاً أمام المحكمة بما يتيح الربط المباشر بين بوتين وتلك الجرائم حتى تتسنى إدانته.
■ نشرت كلية ييل الأميركية للصحة العامة في 14 فبراير الماضي، تقريراً يقدم أدلة موثقة عن نقل 6000 طفل على الأقل دون ذويهم إلى روسيا منذ بداية الحرب، حيث يتم التركيز على الأطفال الأيتام أو المنفصلين عن آبائهم، ما يجعل هذا البرنامج مخيفاً بالفعل، وهو ما جعل الادعاء في المحكمة الجنائية الدولية يبدأ بهذه الاتهامات.