بدأ العرض المتعلق بتاريخ الأميركيين الأصليين بالتذكير بأن صالة العرض الوطنية للفنون في واشنطن، التي يجري فيها العرض، تقع على «أراضي الأجداد» المسروقة من شعبي «ناكوتشتانك» و«بيسكاتواي» الأصليين في أميركا. ومن المعتاد أن تبدأ بعض الإجراءات الرسمية في أميركا الشمالية بالاعترافات بهذه الأراضي، ومن الملائم أن تفتتح الصالة المعنية المعرض بعنوان «الأرض تحمل أسلافنا: الفن المعاصر للأميركيين الأصليين»، وهذا هو المعرض الأول الذي خصصته مؤسسة الفن الأميركي الأصلي المعاصر منذ 70 عاماً.
وتشرف على هذا المعرض الفنانة جوانا كويك-تو سي سميث (83عاماً)، وهي عضو في قبيلتي ساليش وكوتيناي المتحدتين في ولاية مونتانا الأميركية. ولقد اختارت أعمالاً حديثة نفذها 50 مبدعاً حول موضوعات تعبر عن السكان الأصليين، والأرض أو الهوية أو المناظر الطبيعية. وهناك منحوتات ولوحات فنية وصور مجمعة وعروض حية ومقاطع فيديو، وهناك أيضاً قطع مجردة وسياسية صريحة، فالبعض يدين الإبادة الجماعية بشكل مباشر، بينما يتلاعب البعض الآخر بالسخرية والفكاهة.
وقالت تو سي سميث موضحة لصحيفة إيل باييس: «أردت أن أظهر أننا شعب حي ولدينا مستقبل، وليس مجرد شيء من الماضي». وأضافت مشيرة إلى أن المعرض في المتحف الوطني هو رفض للكليشيهات التي تحيط بمجتمعاتها: «نحن لا نتجول نصف عراة مع أغطية الرأس من الريش، كما أننا أيضاً لسنا أقل ذكاء من الرجل الأبيض».
وبفضل جهود مختلف الهيئات، مثل المعرض الوطني، شهد عام 2023 اعترافاً أكبر بثقافة السكان الأصليين في الولايات المتحدة، عبر عوالم الفن والسينما والأدب والتلفزيون. وتضاعفت هذه النشاطات في العام الماضي، وكسرت مبادرة تو سي سميث، ما تصفه بـ«السقف الجلدي»، وهي الصورة التي تساعدها على شرح العقبات غير المرئية التي تفصل قادة السكان الأصليين عن الاعتراف بمؤهلاتهم.
وإضافة إلى الإشراف على معرض الصالة الوطنية، أصبحت تو سي سميث – في ربيع عام 2023 – أول فنانة أميركية من السكان الأصليين تقيم معرضاً منفرداً في صالة «ويتني» للفن الأميركي في نيويورك. وعلى الرغم من أنه تم تخصيصه للفن الأميركي لمدة 93 عاماً، فإنه على ما يبدو حتى الآن، لا يُعدّ فن الأميركيين الأصليين مندرجاً ضمن هذه الفئة. وتقول الفنانة تو سي سميث: «لم يكن من الممكن تصور كل هذه الإنجازات قبل عامين أو ثلاثة أو خمسة أعوام فقط».
وتضيف: «في الثمانينات من القرن الماضي عندما كنا نحاول الوصول إلى مشهد نيويورك، قمنا بتنظيم معارض في معرض سمحوا لنا بافتتاحه في دار الجالية الهندية الأميركية. وقد وزعوا الطعام أو تذاكر الحافلة لتشجيع الناس على الحضور إلى المعرض، ولم يظهر في هذه المعارض قط أي ناقد فني من صحيفة (نيويورك تايمز) أو من أي مجلة أخرى متخصصة في النقد الفني».
ويعيش نحو 80% من الأميركيين الأصليين – البالغ عددهم خمسة ملايين – خارج المحميات التي دفعهم إليها الاستعمار الوحشي الذي اعتمد على العنف والخداع والوعود الكاذبة.
زهرة عباد الشمس
واشترت صالة العرض الوطنية لوحة زهرة عباد الشمس للفنان جيفري. بيتر جيبسون، المعروف بأنه أحد الفنانين الرواد من الأميركيين الأصليين، لإضافتها إلى مجموعته الصغيرة من الفن المحلي. وبدأت هذه العملية جمع الأعمال الفنية التي قام بها الفنانون الأميركيون الأصليون، عام 2020، بالاستحواذ على مجموعة «تارغت» 1992، وهي من تأليف تو سي سميث التي تنتقد الاستخفاف بمأساة شعبها، ووعدت المشرفة على الفن المعاصر في المؤسسة مولي دونوفا قائلة: «من العدل أن ندرك أننا تأخرنا كثيراً.. لكن هذه ليست سوى بداية العملية الضرورية للغاية لتحديث مجموعاتنا».
وبدأ تنظيم المعرض في العام ذاته الذي قُتل فيه الرجل الأميركي من أصل إفريقي، جورج فلويد، على يد مجموعة من الشرطة البيض. وأثار مقتل فلويد العنان لموجة من الاحتجاجات المناهضة للعنصرية في جميع أنحاء البلاد، وسط تفشي جائحة كورونا. واكتسبت حركة «حياة السود مهمة» قوة كبيرة. وكانت بمثابة اختبار مفاجئ للمؤسسات الثقافية الأميركية التي سارعت إلى أداء واجباتها المتعلقة بتمثيل الأقليات، وإفساح المجال لها في برامجها، وتوظيف أمناء من خلفيات متعددة.
وربما ليس هناك أي قطاع آخر كرّس نفسه لهذه المهمة بقدر قطاع الفن الذي يتوق دائماً إلى تحديد كل ما هو جديد، خصوصاً إذا كان جزءاً من قضية اجتماعية. وينطبق هذا على السوق وعلى المؤسسات.
وللمرة الأولى تاريخياً، سيكون المبدع الذي اختير لتمثيل الولايات المتحدة في عرض فردي في بينالي البندقية عام 2024 من السكان الأصليين لأميركا، وهو الفنان جيفري جيبسون (51 عاماً)، حيث قام بنشر كتاب بعنوان «هدية السكان الأصليين»، وهو أحد تلك الكتب الهادفة إلى الاحتفال بعصر محدد، ويقدم لمحة عامة عن الفن المعاصر الذي أنتجه بعض أعضاء القبائل المعترف بها اتحادياً والبالغ عددها 574 قبيلة. وقام جيبسون بدحض بعض الأفكار المسبقة عنهم. وقال الأستاذ في جامعة هارفرد، فيليب ديلوريا، إن حاضر السكان الأصليين هذا «يتجاوز البقاء والمقاومة. إنه يتحدث عن روح الذكاء والسخرية والشجاعة والتحمل والإيمان بالمستقبل».
ودخلت الثقافة الأميركية الأصلية دور السينما عام 2023 بفضل فيلم بعنوان «قتلة زهرة القمر» الذي يروي فيه المخرج الأميركي الشهير مارتن سكورسيزي، مدى العنف الذي تعرض له السكان الأميركيون الأصليون في ولاية أوكلاهوما، عندما قرر البيض سرقة النفط الذي وجدوه في أراضيهم. وطلب المخرج النصيحة من المجتمع المحلي، وشارك في الفيلم ممثلون من السكان الأصليين. وقد نالت النتيجة ثناء المشاهدين الهنود الأميركيين، لأنه كان يعرض مأساة غير معروفة لعامة الناس، ومع ذلك كانت هناك انتقادات لكيفية تركيز الفيلم على الشخصيات التي لعبها الممثلان الأميركيان: روبرت دينيرو، وليوناردو دي كابريو.
الشباب المتشككون
وكان أحد المعالم الرئيسة التي عرضت على محطات التلفزة هو الموسم الثالث من مسلسل «محمية الكلاب» الذي أخرجه الأميركي ستيرلين هارغو، وهو أول مسلسل عملت على كتابته غرفة كتابة كاملة للسكان الأصليين، كما أن العديد من الممثلين هم أيضاً من السكان الأصليين. ويروي الفيلم – بروح الدعابة – المغامرات السيئة لمجموعة من الشباب المتشككين من شعب «مسكوجي» من السكان الأميركيين الأصليين الذين لم يستوعبوا تاريخهم بعد. وباستخدام المفارقة في المواقف، يتم تفكيك بعض الصور النمطية المحيطة بالمحميات التي يتمتع سكانها بسيادة محدودة، تحت إشراف المكتب الفيدرالي للشؤون الهندية. وتتلاعب الحلقات أيضاً – بذكاء – بإحدى الكليشيهات التقليدية في تمثيل السكان الأصليين في الخيال، وخصوصاً فكرة كون السكان الأصليين على اتصال بما هو خارق للطبيعة.
. 80% من الأميركيين الأصليين في الولايات المتحدة البالغ عددهم خمسة ملايين يعيشون خارج المحميات التي دفعهم إليها الاستعمار الوحشي الذي اعتمد على العنف والخداع والوعود الكاذبة.
وصول كولومبوس إلى البر الأميركي
البروفيسور نيد بلاك هوك من جامعة ييل فاز بجائزة الكتاب الوطني. أرشيفية
فاز الأستاذ في جامعة ييل الأميركية البروفيسور، نيد بلاك هوك، وهو من شعب تي مواك (الأميركيون الأصليون) في ولاية نيفادا الأميركية، بجائزة الكتاب الوطني للكتب الواقعية عن كتابه «إعادة اكتشاف أميركا». ويعيد الكتاب النظر في خمسة قرون من التاريخ الأميركي من منظور نضال السكان الأصليين، والبقاء والانبعاث. ويعالج الكتاب هذا الموضوع بمقاربة قارية، فالقصة لا تبدأ بالثورة الأميركية عام 1776، أو حتى عام 1619، عندما وصلت السفن الأولى المليئة بالعبيد إلى ساحل فرجينيا، بل إن بلاك هوك بدأ العمل عام 1492، مع وصول كولومبوس إلى البر الأميركي.
وينتمي بلاك هوك – الذي وصف تجربة الذهاب إلى نيويورك لاستلام الجائزة بأنها «تحويلية» – إلى جيل من الأكاديميين الذين – كما أوضح في مقابلة مع صحيفة إلباييس – يراقبون «كيف تبدأ أساطير التاريخ الأميركي في الانهيار». وأضاف: «تحدث البعض عن قوة السكان الأصليين، لكنني أعزو هذا التغيير إلى حقيقة أن الولايات المتحدة تكتسب التنوع، وكيف نشهد إعادة تشكيل عنصرية دينية». وسيصبح البيض أقلية في مرحلة ما من القرن الـ21، و«يطمح كتابي إلى المشاركة في تلك المحادثة الوطنية الأوسع».
ويشير بلاك هوك إلى عنوانين من ستينات القرن الماضي كانا رائدين في وصف تجربة الأميركيين الأصليين في العالم المعاصر، الأول يحمل عنوان «كاستر مات من أجل خطاياك» للكاتب فاين ديلوريا جي آر، من شعب سيوكس الأميركي الأصلي. وأما الكتاب الثاني فهو رواية تحمل عنوان «بيت مصنوع من الفجر» للكاتب ن. سكوت موماداي، وهو من شعب كيوا، وقد فاز بجائزة «بولتزر» الشهيرة للكتاب عام 1969.
الشاعرة الرسمية للولايات المتحدة
جوي هارجو اختيرت كأول شاعرة رسمية للولايات المتحدة. أرشيفية
جرى اختيار الشاعرة جوي هارجو، وهي أول أميركية أصلية، باعتبارها «الشاعرة الرسمية للولايات المتحدة»، وبقيت في هذا المنصب ما بين 2019 و2022. وشارك في الاختيار «ما لا يقل عن 16 شاعراً أميركيا من السكان الأصليين»، كما أوضحت إحداهن، وهي الكاتبة جينيفر إليز فورستر، عبر البريد الإلكتروني. ولقد اتبعوا معياراً جغرافياً لتغطية مساحة شاسعة، إلى الحد الذي لا يشجع الحديث عن الأميركيين الأصليين باعتبارهم متجانسين، ففي نهاية المطاف هناك نحو أربعة آلاف ميل تفصل بين شعب الإنويت في شمال ألاسكا، وشعب السيمينول في جنوب فلوريدا. ولا تتحدث كتب «المختارات» عن قصة واحدة، بل هي قصائد متنوعة، إذ إنها مجموعة تتحدى الخيال الأدبي للبلاد لإعادة تصور قصصنا وقصص دولنا وشعبنا وحقائقنا، بناء على عدد كبير جداً من القصص والأغاني والشعوب غير المعترف بها التي كانت أصل هذا البلد، والتي تستمر في الازدهار. وتقول فورستر: «لقد تم استبعاد كثير من الأصوات الأدبية الأساسية، وهذا يجب أن يُظهر الثراء المذهل والعمق الشعري للشعوب الأميركية الأصلية».