تعتبر فترة الأشهر التسعة طويلة، ولا يمكن للمرء أن يحبس أنفاسه خلالها، كما أن هوية الرئيس الأميركي المقبل لا يمكن تحديدها قبل السادس من نوفمبر المقبل، ولكن التوقعات التي تشير إلى احتمالية فوز الرئيس السابق دونالد ترامب؛ جعلت حلفاء الولايات المتحدة مشدودين في تشويق استراتيجي.
وباتت المخاوف في الدول الأوروبية الديمقراطية وجودية، لأن أمنها ظل طوال الـ75 عاماً الماضية مضموناً من قبل حلف شمال الأطلسي (ناتو)، وهو الحلف الذي يُظهر ترامب ازدراءً شديداً له باعتباره اتفاقية سيئة بالنسبة للولايات المتحدة.
وتفاخر أمام حشد من أنصاره أخيراً بأنه يشجع روسيا على «القيام بما تريد» للدول التي – حسب رأيه – لا تدفع فواتير حلف الأطلسي.
وإذا عاد ترامب إلى البيت الأبيض فربما لا يتخلى عن التزامات الولايات المتحدة بمساعدة الدول التي تقع على خطوط نيران الجيش الروسي، ليس من الضروري أن يعني بدقة ما يقوله، أو حتى كلماته ستكون فعالة في حال فوزه، ولكن في كل الأحوال الغموض يسيطر على الوضع.
انعدام الثقة بأميركا
ويمكن أن يتخلل انعدام الثقة في أميركا كل نقاش عندما يحدث خلال اجتماع وزراء حلف «الناتو» في بروكسل في وقت لاحق.
وباتت الشكوى من استفادة الأوروبيين مجاناً من ميزانية الدفاع الأميركية عبارة قديمة، ويرى معظم أعضاء حلف شمال الأطلسي أن هذه الفكرة عادلة أيضاً، ولم تتمكن سوى أقلية من الوفاء بالالتزام الذي تم التعهد به في عام 2006 بتخصيص 2% من إجمالي الناتج المحلي للإنفاق الدفاعي، ولكن في الماضي كان الإحباط الناجم عن عدم التماثل في المساهمة في النفقات العسكرية يخفف من حدة الولاء التاريخي وتوافق القيم، وحتى في ما يتعلق بالسياسة الواقعية القائمة على المصلحة الذاتية، يمكن لواشنطن أن تقدر قيمة الحفاظ على الديمقراطية الأوروبية والاستقرار والازدهار باعتبارها مكاسب لحلف شمال الأطلسي.
ولا يقوم ترامب بالتحالفات وإنما بالتجارة، والتهديدات، والمنفعة المتبادلة. والاتفاقية الجيدة في عالم ترامب هي التي يشعر بها الطرف الآخر بأنه تعرض للخداع، ولهذا السبب بالذات فإنه يُكنّ احتقاراً للاتحاد الأوروبي أكثر مما يُكنه لحلف «الناتو»، لأنه ليس عميلاً للولايات المتحدة، فله ثقله التجاري الخاص باعتباره كتلة تجارية قارية.
انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي
ويعتبر الطموح لتعزيز أسلحة أوروبا باعتبارها قوة عظمى اقتصادية أمراً آخر يشترك فيه ترامب وبوتين، ولهذا فقد كان الرجلان متحمسين معاً من أجل انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي.
وفي الحقيقة فإن انعدام الثقة في الولايات المتحدة يطارد ميدان المعركة في أوكرانيا، فقد أوقف الكونغرس الأميركي المساعدات المهمة لأوكرانيا سابقاً، وهو ما يرجع جزئياً إلى سيطرة ترامب على المقاييس العسكرية قبل أن يتم ترشيحه رسمياً كمرشح جمهوري، ويبدو الأمر وكأنه تعويض عن رهان «الكرملين» على أن التمويل الغربي والدعم المعنوي لكييف سينفد بسرعة أكبر من القذائف الروسية.
وثمة فصيل من اليمين في الولايات المتحدة المعجبين ببوتين استناداً إلى أساسات أيديولوجية، باعتبارها نقيصة الليبرالية الفاسدة، ولكن معظم الجمهوريين سيشعرون بالسعادة إذا تدهورت الأمور بالنسبة للجهة التي يدعمها الرئيس جو بايدن، وبالتالي يستطيعون أن يصفوا رئاسته بأنها فترة ضعف للولايات المتحدة، وأن ترامب هو العلاج لاستعادة هذه القوة.
وفي الحقيقة فإن الأنانية البغيضة لهذه اللعبة ستسمم علاقات الولايات المتحدة الدولية حتى لو فاز بايدن بفترة رئاسة ثانية في البيت الأبيض، وبات من الواضح الآن أن الإجماع القديم للكونغرس، وهو لصالح الديمقراطية الدستورية وحكم القانون، قد ولّى إلى غير رجعة.
الاستقلال الاستراتيجي
وبعد وضوح الأمور إلى هذا الحد بات القادة الأوروبيون يتحدثون بنوع من الحماس الجديد عما وصفه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بـ«الاستقلال الاستراتيجي»، وكانت هذه الفكرة مرفوضة سابقاً باعتبارها غير محتملة للخيال الفرنسي، ولكنها باتت الآن تشكل إطاراً لأجندة القارة الأوروبية.
وباتت الآثار المترتبة على ذلك من حيث مصدر الأموال الإضافية المخصصة لميزانيات دفاعية أكبر حتى أكثر من 2% من إجمالي الناتج المحلي، وما تنطوي عليه القدرة الدفاعية القارية الموحدة في واقع الأمر؛ تتسرب ببطء إلى السياسة الداخلية.
ووصلت هذه الأسئلة إلى بريطانيا أيضاً، وهو نقاش يبدو أن مجلس النواب في لندن غير مستعد له بالمطلق.
كما يبدو أن رئيس الحكومة البريطانية ريشي سوناك حساس لما يمكن أن يحدث في الولايات المتحدة في نوفمبر المقبل، ولكن سوناك لن ينجذب إلى أسئلة أكثر عمقاً. وذهب وزير خارجية بريطانيا ديفيد كاميرون إلى أبعد من ذلك عندما وصف تصريحات ترامب بشأن حلف «الناتو» بأنها «أسلوب غير معقول»، وهي أيضاً وجهة نظر سوناك، الذي جلب كاميرون إلى الحكومة كي يستعين بخبراته في السياسة الخارجية في عام الانتخابات.
سوناك وبرلين
ولم يزر سوناك برلين منذ وصوله إلى منصبه، ما يعتبر ازدراءً بالنظر إلى أهمية البروتوكول في السياسة الألمانية، وزار باريس وأقام علاقات جيدة مع ماكرون، ولكن ليس هناك جوهر لقيام شراكة بينهما. وتوقع الرئيس الفرنسي تبادلاً رفيع المستوى للتحليلات الجيوسياسية، ولكن نظيره البريطاني أراد التوصل إلى صفقة سريعة بشأن منع القوارب الصغيرة من عبور قناة المانش.
وكان الهاجس بالهجرة البحرية مثمراً أكثر، إذ إنه أدى إلى تطوير العلاقات مع رئيسة حكومة إيطاليا جورجيا ميلوني ذات التوجه العملي الذي يجذب التطرف اليميني، وهذا يكشف أن سوناك أكثر قرباً مع معسكر الشعبويين الأوروبيين الذين سيصفقون لفوز ترامب بفترة حكم ثانية من قربه من الليبراليين الأوروبيين.
حسن الجوار
وفي سياق آخر فإن سوناك يطمح لأن يكون صديقاً لأوروبا، إذ إن دعمه لأوكرانيا لا يتزعزع، وفاوض إطار ويندسور من أجل إيرلندا الشمالية في تنصل من أسلوب رئيس الحكومة السابق بوريس جونسون التخريبي لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ويعتبر الامتناع عن التخريب أقل ما هو مطلوب من أجل العلاقات الفعالة، ولكن حسن الجوار ليس مفهوماً سياسياً فهو لا يجيب على السؤال الصعب الذي مفاده: كيف ستتمكن بريطانيا من الانخراط مع أوروبا التي تتوق إلى الاستقلال الاستراتيجي؟
وظلت السياسة الخارجية لبريطانيا لجيل من الزمن تستند إلى دعامتين هما: الاتحاد الأوروبي، والتحالف مع الولايات المتحدة، وكانت بريطانيا هي الجسر المحوري بين واشنطن وبروكسل، ولكن خروج بريطانيا أدى إلى تدمير أحد جوانب الجسر، وقام ترامب بإعداد الجانب الآخر من أجل التدمير، وهذه أزمة التوجه العالمي لبريطانيا والتي يجب أن تكون نقاشاً مركزياً بالنسبة لحملة الانتخابات العامة، ولكن ذلك سيتطلب قادة سياسيين قادرين على الاعتراف بوجود أزمة. عن «الغارديان»
. حسن الجوار ليس مفهوماً سياسياً، فهو لا يجيب عن السؤال الصعب الذي مفاده: كيف ستتمكن بريطانيا من الانخراط مع أوروبا التي تتوق إلى الاستقلال الاستراتيجي؟
. المخاوف في الدول الأوروبية الديمقراطية وجودية، لأن أمنها ظل طوال الـ75 عاماً الماضية مضموناً من قبل حلف شمال الأطلسي (ناتو).