أصبحت روسيا أكثر خطورة، وأصبحت أميركا أقل موثوقية لدى حلفائها الأوروبيين، في الوقت الذي لاتزال فيه القارة العجوز غير مستعدة للدفاع عن نفسها. من الصعب معالجة هذه المشكلة في وقت قصير، حيث إن الترتيبات الأمنية القائمة على حلف شمال الأطلسي (الناتو) التي انبثقت عن الحرب العالمية الثانية ـ والتي حالت دون وقوع حرب ثالثة ـ تشكل جزءاً كبيراً من نسيج أوروبا، الأمر الذي يجعل إعادة صياغة هذا الحلف مهمة هائلة. ويتعين على زعماء أوروبا أن يتخلصوا بشكل عاجل من شعورهم بالرضا عن الذات الذي انتابهم في مرحلة ما بعد الاتحاد السوفييتي. وعليهم رفع الإنفاق الدفاعي إلى مستوى كبير، واستعادة التقاليد العسكرية المهملة في أوروبا، وإعادة هيكلة صناعات الأسلحة، والاستعداد لحرب محتملة.
كان من المفترض أن تؤدي وفاة زعيم المعارضة الرئيس في روسيا، أليكسي نافالني، في مستعمرة جزائية في الـ16 من فبراير، إلى تحطيم أي أوهام متبقية حول قسوة وعنف الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين. ومع دخول القتال عامه الثالث، يبدو أن روسيا تنتصر على أوكرانيا. وبعد أن وضع الاقتصاد في حالة حرب، ينفق الرئيس الروسي 7.1% من الناتج المحلي الإجمالي على الدفاع. ويقول وزير الدفاع الدنماركي، إنه في غضون ثلاث إلى خمس سنوات، قد يكون بوتين مستعداً لمواجهة «الناتو»، ربما من خلال إطلاق عمليات هجينة ضد إحدى دول البلطيق. وسيكون هدفه تدمير تعهد «الناتو» بأنه إذا تعرضت إحدى الدول لهجوم، فإن الدول الأخرى ستكون على استعداد لتقديم مساعدتها.
الردع الغربي
وحتى مع تزايد التهديد الروسي، فإن الردع الغربي آخذ في الضعف. ويرجع ذلك جزئياً إلى الدعم الأميركي المتردد لأوكرانيا. ولكن السبب أيضاً يرجع إلى أن الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، الذي قد يكون الرئيس الأميركي المقبل، يلقي بظلال من الشك على ما إذا كان سينحاز إلى الجانب الأوروبي في أعقاب الهجوم الروسي. وأصبح الحزب الجمهوري وأجزاء من المؤسسة الأمنية أقل التزاماً بأوروبا. ويركز الدفاع الأميركي بشكل متزايد على المحيط الهادئ. وحتى لو أعيد انتخاب الرئيس جو بايدن، فقد يكون آخر رئيس لأميركا يتحالف بجدية مع أوروبا.
العواقب قاتمة، حيث تعتمد أوروبا بشكل كامل على القوة العسكرية المهيمنة التابعة لـ«الناتو». وقد اشتكى أحد الجنرالات الأميركيين مؤخراً أن العديد من جيوش الولايات المتحدة ستجد صعوبة في نشر ولو لواء واحد كامل القوة يتألف من بضعة آلاف من الجنود. وفي الفترة 2015-2023، فقدت بريطانيا خمساً من كتائبها القتالية. وتفتقر العديد من البلدان إلى القدرات، مثل طائرات النقل والقيادة والسيطرة والأقمار الاصطناعية. وتستطيع بولندا أن تستخدم نظام المدفعية الصاروخية الممتاز «هيمارس»، لكنها تعتمد على أميركا في العثور على أهدافها بعيدة المدى. كما إن التقدم السريع الذي أحرزته روسيا وأوكرانيا في حرب الطائرات بدون طيار، والذي يتم اختباره يومياً في ساحة المعركة، يهدد بتخلف «الناتو» وراء الزمن.
ونظراً لأهمية الدورات الطويلة في التخطيط العسكري، يتعين على أوروبا أن تبدأ في تصحيح هذا الأمر اليوم، وأن تضع الأولوية في تعزيز قدرتها على القتال. ويبدأ ذلك ببرنامج ضخم للتوظيف والمشتريات، والتجنيد الإجباري مكلف وغير فعال، ويمكن لأوروبا أن تتعلم من بلدان الشمال مثل فنلندا والسويد، التي تحتفظ باحتياطيات ضخمة من المجندين. وتحاول الجيوش الأوروبية تجميع طلباتها من المعدات، لكن أصحاب الصناعات الدفاعية غالباً ما يتشاجرون حول ما إذا كانت شركاتهم تتمتع بحصة عادلة من الأعمال. فرنسا على سبيل المثال غاضبة من عدم قيام الدول الأوروبية بشراء معداتها وشراء نظام دفاع جوي يستخدم منصات إطلاق أميركية وإسرائيلية بدلاً من ذلك.
هذا العام سينفق «الناتو» الأوروبي نحو 380 مليار دولار على الدفاع. وبعد تعديلها وفقاً للقوة الشرائية، فإنها تعادل تقريباً القوة الشرائية لروسيا. هناك مشكلة أخرى في هذا الصدد، هي عادة البخل السيئة لدى بعض الدول الأوروبية في شراء المعدات. ويتوقع «الناتو» أن ينفق أعضاؤه 20% من ميزانياتهم على الأسلحة. ويبلغ العجز الذي تراكم لدى دول الحلف (بالإضافة إلى النرويج) منذ عام 1991، 557 مليار يورو (600 مليار دولار).
وسيكون سد هذه الفجوة أمراً صعباً، ففي عام 2022، بعد ثماني سنوات من الزيادات في أعقاب ضم روسيا شبه جزيرة القرم، لم ينفق الأعضاء الأوروبيون في «الناتو» في المجمل أكثر مما كانوا ينفقونه في عام 1990 بالقيمة الحقيقية، وضاعفوا بدلاً من ذلك الإنفاق الاجتماعي. وغالباً ما تتركز الأنظار على ميزانيات الحلف فيما إذا كانت الدولة تخصص 2% من الناتج المحلي الإجمالي للدفاع، ولكن حتى مع إنفاق هذا المبلغ، فإن نسبة 2% لن تكون كافية.
وإذا كان على الزعماء الأوروبيين أن يجمعوا الأموال من خلال تخفيض الخدمات الأخرى والضرائب والاقتراض، فسيتعين عليهم إقناع الناخبين بأن التضحيات تستحق العناء.
خيارات صعبة
في ألمانيا، التي من المرجح أن تصبح الدولة الكبرى في الإنفاق العسكري في أوروبا، سيكون لزاماً عليها أن تغير حد العجز المنصوص عليه في الدستور. وقد أدت خطة المفوضية الأوروبية لتنسيق شراء الأسلحة إلى انتقادات من جانب الدول الأعضاء، ربما لأن من شأنها أن تحد من الضغوط التي يمارسها أبطال الصناعة. وبعد أن اعتمدوا لعقود عدة على أميركا، فإن العديد من الأوروبيين الذين لم يعرفوا قط سوى السلام، مازالوا يتهربون من الخيارات الصعبة التي يتطلبها الهجوم الروسي.
وتمتد تلك الخيارات الصعبة إلى الأسلحة النووية، وهدد بوتين بالتصعيد لردع الغرب عن تزويد أوكرانيا بأسلحة تقليدية متقدمة. وفي غياب الردع النووي الأميركي، فإن أوروبا الشرقية ستصبح عُرضة للتكتيكات نفسها، فهل تستطيع بريطانيا وفرنسا المسلحتان نووياً تقديم ضمانات بدلاً من ذلك؟ وإذا فعلتا ذلك، فهل سيصدقهما بوتين؟
ومكمن الخطر هنا هو أن أوروبا تربط نفسها في عقد مؤسسية عدة. ويزعم بعضهم، وخصوصاً في فرنسا، أنه لابد أن تسعى القارة إلى الاستقلال الاستراتيجي عن أميركا في أسرع وقت ممكن، ومن الأفضل من خلال الاتحاد الأوروبي. وسيكون من الأفضل التركيز على «الناتو»، حيث يتمتع الحلف بقدرة ونطاق للتوسع أكبر بكثير. إن تعزيز الدور الأوروبي داخل الحلف أمر منطقي، لأن الهياكل العسكرية اللازمة موجودة بالفعل. كما أن أوروبا ستلزم الحلفاء من خارج الاتحاد الأوروبي الذين يعتبرون حيويين للدفاع عن أوروبا، فبريطانيا هي أكبر منفق عسكري في أوروبا، وتشترك النرويج في حدود مع روسيا، وتسيطر أيسلندا على شمال الأطلسي. إن زيادة ثقل أوروبا في الحلف تظهر استعداد الاتحاد الأوروبي لبذل المزيد من الجهد، وفي الوقت نفسه، يعكس الاستعداد الأوروبي للدفاع عن نفسه في حالة انسحاب أميركا.
روسيا أفقر بكثير، وأقل سكاناً من أوروبا. إن أعمال النهب التي قام بها بوتين تجعلها قوة متراجعة، ولكن لايزال بإمكان الدب أن ينشر الدمار والبؤس. وأفضل فرصة لإيقاف بوتين عند حده هي حربه في أوكرانيا. ولكن حتى لو نجح ذلك، فسيكون لزاماً على أوروبا أن تفكر بشكل مختلف تماماً فيما يتعلق بالدفاع، وعليها أن تبدأ الآن.
• لابد أن تسعى القارة إلى الاستقلال الاستراتيجي عن أميركا في أسرع وقت ممكن، ومن الأفضل من خلال الاتحاد الأوروبي. وسيكون من الأفضل التركيز على (الناتو)، حيث يتمتع الحلف بقدرة ونطاق للتوسع أكبر بكثير.
• مع تزايد التهديد الروسي، فإن الردع الغربي آخذ في الضعف. ويرجع ذلك جزئياً إلى الدعم الأميركي المتردد لأوكرانيا. ولكن السبب يرجع أيضاً إلى أن الرئيس السابق، دونالد ترامب، الذي قد يكون الرئيس الأميركي المقبل، يلقي بظلال من الشك على ما إذا كان سينحاز إلى الجانب الأوروبي في أعقاب الهجوم الروسي.