كان توبار راميريز منخرطاً في الرياضة منذ صغره، وخلال فترة المراهقة في بيتسبرغ بولاية بنسلفانيا الأميركية فاز بمنحة جامعية للمصارعة، والنشاط البدني هو صمام الأمان بالنسبة له، ووسيلة «لإيجاد التوازن» في حياة مليئة بالصعود والهبوط.
وحالياً يعمل في شركة تسويق عبر الهاتف في غواتيمالا، وذلك بفضل لغته الإنجليزية الممتازة، ويعيش مع زوجته ليليان وابنه كريستيان، ويعترف توبار قائلاً: «مع الحياة التي عشتها لم أتخيل أبداً أن أحظى بمنزل مستقر.. لقد كان مفاجأة رائعة».
وعلى بعد أكثر من 3000 ميل من توبار، وفي مدينة مونتريال الكندية، يحلم شقيقه إجناسيو ألفارادو بدراجة جديدة لمشروعه التالي، السفر من مدينة مكسيكو إلى مدينة غواتيمالا، لجذب الانتباه إلى قضيته، ويقول ألفارادو بإصرار: «نريد زيادة الوعي حتى لا يتكرر ما حدث لنا».
إنهما اثنان من 30 ألف طفل غواتيمالي تم التخلي عنهم لـ«التبني الدولي» بين عامَي 1977 و2007، وقد اتسم كثير من عمليات التبني بالمخالفات والفساد، وفقاً للمحكمة الأميركية لحقوق الإنسان، وفي عام 2018 أدانت الهيئة القضائية الدولة الواقعة بأميركا الوسطى في قضية توبار وشقيقه.
وتم تبني توبار في الولايات المتحدة، بينما تم تبني ألفارادو في كندا.
وكبالغَين عادا إلى غواتيمالا لمعرفة الحقيقة حول تبنيهما ولمّ شملهما بعائلتيهما البيولوجيتين، وكلاهما أيضاً ناشطان في مجال حقوق الإنسان ويتحدثان لضمان عدم نسيان السرقة «القانونية» للأطفال في غواتيمالا.
يوم لا يُنسى
يقول توبار: «لن أنسى أبداً التاسع من يناير 1997»، حيث كان عمره سبع سنوات، عندما دخل مسؤولون من مكتب المدعي العام منزل عائلته واقتادوه هو وشقيقه بعد أن تقدم أحد الجيران بشكوى تفيد بأن الطفلين قد تم التخلي عنهما، ويتذكر: «أخبروني أنهم سيعيدوننا بعد الظهر، لكن تلك كانت آخر مرة أرى فيها منزلنا».
في ذلك الوقت كانت والدة الطفلين، سارا راميريز، في العمل، وفي الواقع كانت تعمل لدى وكالة حكومية مرتبطة بإدارة الضرائب.
وتتذكر راميريز: «كنت سعيدة لأنني كنت أكسب 250 دولاراً في الشهر، ويمكنني أن أمنح أطفالي حياة جيدة، وعندما اكتشفت ما حدث فقدت السيطرة ومزقت نصف المال يأساً لعدم معرفة مكانهما».
ذهبت راميريز إلى محكمة الأحداث، حيث تأكد أن طفليها قد تم أخذهما، ومن هناك بدأت محاكمة سريعة، وفي النهاية أعلن القاضي أنها غير مؤهلة لرعايتهما وأعلن أن الأطفال الذين تم قبولهم في جمعية أطفال غواتيمالا «مهجورون».
مراجعة الحكم
بعد 27 عاماً تروي الأم والدموع تنهمر على وجهها: «لم أرهما مرة أخرى، وشعرت كأنني سفينة بلا دفة، وكنت ميتة رغم أني على قيد الحياة».
وفي أبريل 1998 تم فتح ملفَي تبنٍّ للأخوين، وتم تبني كل منهما من قبل عائلة مختلفة، وسافر توبار بالطائرة إلى بيتسبرغ، في الثاني من يونيو من ذلك العام، باسم مختلف، وتم تقديم استئنافات لمراجعة الحكم من قبل راميريز، وفي وقت لاحق من قبل جوستافو فاخاردو – الأب البيولوجي للطفلين – الذي هاجر إلى المكسيك لأسباب اقتصادية، وكانت المحاولات القانونية بلا فائدة.
ويقول توبار: «تعرضت للضرب والإساءة في دور الأيتام، كما اعتقدت أنني فقدت أخي عندما انتقلت إلى عائلة التبني»، ويضيف: «لكنني لم أتواصل أبداً مع والدي بالتبني، وكانت حياتي في الولايات المتحدة تعيسة»، وقضى توبار حياته يشعر بأن الحياة قد سُلبت منه.
ويتابع توبار: «حاولت الهروب من الواقع، وأدمنت شرب الكحول والتدخين، وانضممت إلى عصابة، بل وقضيت بضعة أشهر في السجن».
وعلى عكس توبار، عثر سكان أحد المجتمعات في شرق البلاد على شقيقه ألفارادو، واعتنوا به بحب وأخذوه إلى المستشفى لإجراء الفحوص الطبية، لكن بعد فترة وجيزة اختفى.
واكتشف لاحقاً أنه تم نقله إلى دار أيتام، تم الكشف عنها بعد سنوات بسبب تورطها في الاتجار بالأطفال، ويقول ألفارادو: «كان السكان حزينين للغاية لدرجة أنهم سمّوا النهر بـ(عودة الطفل)، على أمل أن أعود يوماً ما».
وفي سنّ مبكرة تبنته عائلة كندية، وبحلول سن الـ17 كان ألفارادو قد غير عائلته ثلاث مرات، وكانت حياته صعبة مثل حياة شقيقه توبار، وعن ذلك يقول: «عندما أصبحت شخصاً بالغاً أراني أحد الأصدقاء مقالاً عن الاتجار بالأطفال في دار الأيتام التي أتيت منها، وسألت نفسي: هل حدث هذا لي؟».
سوق الأطفال
حقق الموثقون ثروات كبيرة من خلال تسهيل «التبني الدولي» من دون التحقق أولاً مما إذا كان الطفل يتيماً أو مهجوراً بالفعل، أو ما إذا كانت الأسرة التي ستستقبله مناسبة، وكثيراً ما استغلوا أوضاع الناس، فقد ينتهي الأمر بالأُسر المتبنية إلى دفع ما بين 30 ألفاً و80 ألف دولار، وفقاً للحسابات التي أجراها خبراء استشارتْهم لجنة البلدان الأميركية لحقوق الإنسان.
ويشير توبار وألفارادو إلى أن «هذا المبلغ من المال كان من الممكن استخدامه لدعم الأسر في غواتيمالا من دون إبعاد الأطفال عن منازلهم»، ووفقاً لتقرير صادر عن المقرر الخاص للأمم المتحدة فإن هذه التسهيلات القانونية جعلت غواتيمالا واحدة من الدول الأربع التي تخلت عن أكبر عدد من الأطفال للتبني في العالم. عن «إل بايس»
شبكات الاتجار بالأطفال
آلاف الأطفال تم أخذهم للتبني في ظروف غامضة. أرشيفية
تم تبني الشقيقين توبار وألفارادو في سياق الصراع المسلح الداخلي، الذي خلّف ما لا يقل عن 200 ألف قتيل ومفقود في غواتيمالا بين عامَي 1960 و1996، وفي خضم الفوضى المؤسسية وافقت غواتيمالا في عام 1977 على قانون يسمح للموثقين والمحامين بإدارة عمليات التبني من دون إذن قضائي، وقد أدى هذا إلى تسهيل إنشاء شبكات الاتجار بالأطفال، وشاركت المستشفيات والجيش والهيئات القضائية ودور الأيتام في هذه الشبكات.
زيادة الوعي
توبار مع عائلته في غواتيمالا. من المصدر
بدأ إجناسيو ألفارادو التحقيق في أصوله خلال رحلة إلى غواتيمالا في عام 2019، وقال ألفارادو لصحيفة «إل بايس»: «أثناء سيري في الجادة السادسة رأيت صور أولئك الذين اختفوا أثناء الصراع، وخطرت لي فكرة وضع ملصقات لنفسي، لأرى ما إذا كان أي شخص يبحث عني»، وبدعم من منظمة غير ربحية في غواتيمالا، تمكّن من وضع صورته في أماكن عدة لزيادة الوعي بشأن الاتجار بالأطفال.
وساعده فحص عينة الحمض النووي على الاتصال بابن عمه، وشيئاً فشيئاً علم أن أصوله كانت في قرية شرق البلاد، وفي عام 2022 تمكن من مقابلة والدته بدعم من رابطة الصحة العقلية في غواتيمالا.
ويعترف ألفارادو: «لقد كان شعوراً قوياً للغاية، لكن لا داعي لإضفاء طابع رومانسي عليه»، مضيفاً: «لا يمكن العودة 35 عاماً إلى الوراء، إنه مثل التبني للمرة الثانية، إذ يستغرق بناء علاقة وقتاً».
وفي عام 2021 أسس مجموعة «نحن هنا»، وشقيقه توبار عضو فيها أيضاً، ويمكن لأي شخص مُتبنّى لديه شكوك حول ماضيه أو يبحث عن عائلته البيولوجية الاتصال بهما، وللقيام بذلك تستخدم المجموعة عينات الحمض النووي أو شهادات الميلاد أو تضع صوراً في الشوارع.
وفي غضون ثلاث سنوات تم لم شمل ثمانية أشخاص بعائلاتهم. ويؤكد ألفارادو: «من المهم ألا يلوم الآباء البيولوجيون أنفسهم حتى لو كان ذلك صعباً».
ملاذ أخير
في عام 2008 كان أغلب الأطفال الذين وصلوا إلى الولايات المتحدة للتبني من أصل غواتيمالي، على الرغم من حقيقة أن قانون التبني الغواتيمالي لعام 2007 أنشأ التبني الدولي كملاذ أخير، وفي عام 2010 خلصت اللجنة الدولية لمكافحة الإفلات من العقاب في غواتيمالا إلى أن شبكات الاتجار بالبشر استخدمت استراتيجيات مختلفة للحصول على الأطفال، بما في ذلك تهديد الأمهات والانخراط في ما يسمى «غسيل الأطفال»، الذي يتمثل في تقديم الأطفال المسروقين أو المهجورين أمام قاضٍ لإعلانهم مناسبين للتبني.
وكان توبار راميريز ضحية لـ«غسيل الأطفال» هذا، بينما لم يكن ألفارادو كذلك، لكنّ الاثنين «تم بيعهما لعائلات كانت يائسة من سعيها لإنجاب طفل»، كما يقول ألفارادو.
. الموثقون حققوا ثروات من تسهيل «التبني الدولي» من دون التحقق أولاً مما إذا كان الطفل يتيماً أو مهجوراً بالفعل.
. غواتيمالا وافقت في عام 1977 على قانون يسمح للموثقين والمحامين بإدارة عمليات التبني من دون إذن قضائي.