لقرون من الزمن، ظل شغل السياسة البريطانية الشاغل هو الحيلولة دون ظهور زعامة مهيمنة في أوروبا. خاض «الإليزابيثيون» صراعاً ضد قوة إسبانيا وهابسبورغ. قاد وليام الثالث عملية احتواء لويس الرابع عشر، الجيل الذي شهد الثورة الصناعية قاتل وهزم طموحات نابليون، وفي القرن الـ20 قاد البريطانيون حربين عالميتين لمنع سيطرة ألمانيا على القارة. حتى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي يمكن اعتباره ثورة ضد السلطة المفرطة. هذا يكمن في الحمض النووي للسياسة البريطانية، ويتمثل – لأسباب تاريخية – في الخوف من الزعامة الأوروبية القوية وإحباطها.
ولكن في لحظة نادرة جداً في الألفية الماضية صارت لدينا مشكلة معاكسة، تتمثّل في غياب الزعامة الأوروبية السلطوية، ما يشكّل خطراً جسيماً على القارة، وبما أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي لم يشمل نقل موقعنا الجغرافي، فإنه يشكل خطراً علينا. ولا تزال أوروبا تضم بعض أفضل المدن سكناً في العالم (فيينا)، وبعض أغنى البلدان (سويسرا)، وبعض أسعدها (إسكندنافيا)، والعديد من أفضل الأماكن للزيارة. ومع ذلك فهي في خطر وشيك. فمن ناحية تهجرها أميركا، ومن ناحية أخرى تحطم أمنها روسيا، وتتسمم سياساتها بعدم القدرة على الارتقاء إلى مستوى تحدي الأحداث في إفريقيا. لقد حان الوقت لنا نحن البريطانيين أن نقلق لأن أوروبا في ورطة.
توسيع «الناتو»
ولكن كل هذا لا ينفي أن الدول الأوروبية وقفت معاً بشكل جيد في أزمتين في عشرينات القرن الـ21 حتى الآن، فقد استجاب الاتحاد الأوروبي لكوفيد -19 بشكل حاسم، من خلال برامج الديون والإنفاق المشترك. وكان توسيع حلف شمال الأطلسي (الناتو) جزءاً من استجابة موحّدة – إلى حد كبير – من أجل مصير أوكرانيا. من السهل أن نحصي الزعماء القادرين والفعالين في مختلف أنحاء القارة، من أورسولا فون دير لاين في بروكسل، إلى رؤساء وزراء إيطاليا وبولندا، أو الرئيس الجديد لفنلندا.
ولكن في غياب فرنسا وألمانيا كقوتين مركزيتين دافعتين، تتعرض أوروبا للتعثر. فقد تدهورت السياسة الداخلية في البلدين، وتدهورت العلاقات بينهما إلى درجة مثيرة للقلق. لقد جعلت النتائج الفوضوية للانتخابات الفرنسية في يوليو، الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون – الزعيم الوحيد الذي جمع بين القوة والرؤية – بطة عرجاء. وفي ألمانيا، حطّم ائتلاف غير فعال من ثلاثة أحزاب كل الأرقام القياسية في عدم الشعبية، مع صعود المتطرفين من اليمين واليسار في الانتخابات. ولم يقم المستشار أولاف شولتس، قط بصياغة تحالف وثيق مع باريس، ولم يسع إلى قيادة الرأي العام الأوروبي، لمواجهة تحديات جديدة دراماتيكية. لقد تسللت ثلاث أزمات كبرى إلى أوروبا، ولن يستغرق الأمر أكثر من عشر سنوات أخرى حتى تطغى عليها هذه الأزمات.
كان تقرير ماريو دراجي (الرئيس السابق للبنك المركزى الأوروبي ورئيس الوزراء الإيطالى السابق) الأسبوع الماضي مقنعاً وصحيحاً تماماً. فقد حذر دراجي من أنه ما لم تصبح أوروبا أكثر إنتاجية، فلن تكون لديها أي فرصة لتصبح «منارة للمسؤولية المناخية» أو «لاعباً مستقلاً على المسرح العالمي»، أو لتمويل نموذجها الاجتماعي. وقال بصراحة: «هذا يشكّل تحدياً وجودياً».
والأمر الأكثر إثارة للدهشة هو أن دراجي زعم أن الفجوة برمتها بين النمو السريع في أميركا، والنمو الفاتر في أوروبا، مع ارتفاع مستويات المعيشة في الولايات المتحدة بمعدل ضعف المعدل الأوروبي، يمكن تفسيرها بالثورة التكنولوجية. ويقول إن أوروبا تفشل في ترجمة الإبداع إلى تسويق، والشركات المبتكرة «تعوقها في كل مرحلة لوائح تنظيمية غير متسقة ومقيدة»، وهي تحتاج إلى مزيد من البحث والاستثمار، وللمؤسسات الأكاديمية الأقوى، ولمزيد من رأس المال لتمكين الشركات من التوسع، وللوائح التنظيمية الأكثر انسيابية. هذه الوصفة واضحة للغاية، ولكن لا يبدو أن هناك شخصاً مناسباً في أوروبا ليقود الطريق نحو ذلك.
هناك صورة أكثر اختلاطاً للأزمة الكبرى الثانية التي تلوح في أفق أوروبا، فهذه الحرب التي تشتعل في أوكرانيا، هي التي ستحدد مستقبل القارة لعقود من الزمن.. في هذه القارة المحاصرة والمثقلة بالإنفاق الدفاعي الأعلى بكثير من ناحية، أو الواثقة بقيمها وأمنها من ناحية أخرى.
وفي الأيام الأخيرة، كان كل الاهتمام منصباً على التردد المزعج للرئيس جو بايدن في السماح باستخدام الصواريخ البريطانية والفرنسية ضد روسيا على مدى أطول. ومع ذلك، تمت إزالة مخزون ألمانيا من مئات صواريخ «توروس» من على الطاولة تماماً، والتي كان من الممكن أن تمنح الأوكرانيين سلاحاً أكثر فاعلية للدفاع عن أنفسهم. وفي الوقت نفسه، تعمل برلين على تقليص مساعداتها لأوكرانيا، بحجة واهية، مفادها أن العائدات من الأصول الروسية المصادرة ستملأ الفجوة. وفي مواجهة أخطر تهديد للأمن الأوروبي منذ الحرب الباردة، فإن هذا بعيد كل البعد عن القيادة.
الأزمة الثالثة هي الهجرة، فمن الواضح أن الهجرة واسعة النطاق وغير المنضبطة أمر كارثي لسياسة أوروبا. فالأحزاب اليمينية المتطرفة تحصد الملايين من الأصوات على حساب هذه القضية وحدها، ما يؤدي إلى اندفاع نحو إجابات مذعورة ومؤقتة. إن ميثاق الهجرة في الاتحاد الأوروبي يركز على إعادة توزيع المهاجرين أكثر من إبعادهم. لكن إعلان ألمانيا عن عمليات تفتيش على الحدود يصبح أمراً خطراً بالنسبة لأوروبا، لأنه يمثل انتهاكاً لاتفاقية «شنغن»، ومن المرجح أن يكون غير فعال ومُعدٍ، وهناك دول أخرى ستحذو حذو ألمانيا.
انشغال بريطانيا
لقد صاغت رئيسة الوزراء الإيطالية، جورجيا ميلوني استجابة أكثر فاعلية حتى الآن للهجرة غير الشرعية، لهذا السبب كان رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر هناك ليتعلم منها. ومع ذلك فمزجها بين الصفقات مع دول العبور، والمعالجة في أماكن أخرى، من غير المرجح أن يصمد أمام اختبار السنوات المقبلة دون نهج أكثر توحداً وطموحاً من قبل القادة الأوروبيين. فمن المقرر أن يرتفع عدد سكان منطقة الساحل (شمال إفريقيا) إلى 300 مليون بحلول عام 2050، في منطقة تعاني الحرب وتغير المناخ وسوء الحكم.
إن هذه الأزمات الثلاث المتعلقة بالابتكار والأمن والهجرة، تشكل تهديدات أساسية للاستقرار والازدهار. وبالنسبة لبريطانيا، فإن انشغالنا الطويل بمنع الزعامة الأوروبية من التحول إلى تهديد، لابد أن يفسح المجال لاهتمام جديد نحن بحاجة إلى وجوده. ويتعين على الحزبين الرئيسين تعديل تفكيرهما، وستتلاشى أي تطلعات لحزب العمال للاقتراب بثبات من الاتحاد الأوروبي قريباً، إذا لم يتمكن زعماء أوروبا من الارتقاء إلى مستوى هذه التحديات الثلاثة، لكن لا ينبغي للمحافظين أيضاً أن يعتقدوا أن مثل هذه التحديات يمكن التغلب عليها بمواجهتها بمفردنا.
وفي ما يتصل بالابتكار والتكنولوجيا، تستطيع بريطانيا أن تقود بالقدوة، مع مزايا الجامعات القوية، والتنظيم الأفضل، إذا اخترنا الاستفادة القصوى منها. وفي ما يتصل بأوكرانيا، تولت الحكومات البريطانية زمام المبادرة. وفي ما يتعلق بالهجرة، حتى كجزيرة، فسننجح أو نفشل مع جيراننا، لكن في كل هذه التحديات الثلاثة أصبح من مصلحتنا الآن أن تظهر زعامة أوروبية قوية وتنجح في مسعاها. عن «التايمز» البريطانية
• في غياب فرنسا وألمانيا كقوتين مركزيتين دافعتين، تتعرض أوروبا للتعثر، فقد تدهورت السياسة الداخلية في البلدين، وتدهورت العلاقات بينهما إلى درجة مثيرة للقلق.
• صاغت رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني استجابة أكثر فاعلية حتى الآن للهجرة غير الشرعية، لهذا السبب كان رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر هناك ليتعلم منها.
وليام هيغ وزير الخارجية البريطاني السابق