خالف الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، التوقعات بأن تُنهي الانتخابات مشواره السياسي، وحشد مزيجاً من الناخبين المتدينين، ومن أنصار التيار القومي الذين يمكنهم الآن على ما يبدو إبقاءه في السلطة لعقد ثالث.
ورغم أن أردوغان لم يظفر بالنصر بعد، إذ لايزال يتعين عليه الفوز في جولة الإعادة التي تجري اليوم، على منافسه كمال كيليتشدار أوغلو، فقد زاد التأييد له بعد تقدمه بقوة في الجولة الأولى من الانتخابات يوم 14 مايو الجاري، ويتوقع المحللون فوزه بلا شك.
ومن شأن فوز أردوغان في الانتخابات أن يرسّخ حكمه، الذي غيّر فيه ملامح تركيا، وأعاد تشكيل الدولة العلمانية التي تأسست منذ 100 عام، لتلائم رؤيته المتدينة، بينما أحكم قبضته على السلطة، فيما يعتبره المعارضون توجهاً نحو حكم سلطوي.
وعلى الصعيد العالمي، حوّل أردوغان وجهة تركيا، العضو في حلف شمال الأطلسي، بعيداً عن حلفائها الغربيين التقليديين، وأقام علاقات مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وجعل من بلاده قوة إقليمية نافذة.
زيادة الاستقطاب
ويقول منتقدون إنه زاد من الاستقطاب خلال فترة حكمه، المستمرة منذ 20 عاماً، وحتى خلال الحملة الانتخابية الحالية، لكنه نفى ذلك قبل انتخابات اليوم، واتهم خصومه بأنهم «يسممون الخطاب السياسي».
وقال في مقابلة أجرتها معه شبكة «سي.إن.إن ترك» الخميس، «سنواصل احتضان أمتنا، وهي طريقة تفكير نابعة من ثقافتنا… إذا فزنا في 28 مايو، بإذن الله، فسيفوز كل فرد من شعبنا البالغ عددهم 85 مليون نسمة».
ويُنظر إلى التصويت على أنه الأكثر أهمية منذ تأسيس الدولة التركية الحديثة قبل 100 عام، إذ استشعرت المعارضة أفضل فرصة لها حتى الآن للإطاحة بأردوغان، ومحو كثير من التغييرات العميقة التي أحدثها في تركيا.
لكن الانتخابات أكدت عوضاً عن ذلك بقاءه في السلطة، وأظهرت خطأ حسابات خصومه الذين توقعوا أنه سيعاني جراء أزمة غلاء المعيشة والانتقادات لطريقة تعامل الدولة مع الزلازل التي وقعت في فبراير الماضي، وأودت بحياة أكثر من 50 ألف شخص.
وعبر المنتقدون والناجون من الزلزال عن غضبهم من بطء استجابة الحكومة الأولية للزلزال، والتساهل في تطبيق قواعد البناء، وهي إخفاقات كانت تكلفتها خسائر في الأرواح.
لكن حزب العدالة والتنمية الذي يتزعمه أردوغان، حل في المركز الأول في 10 أقاليم من أصل 11 تعرضت للزلزال، وساعده في تأمين أغلبية برلمانية مع حلفائه في الانتخابات البرلمانية التي جرت في 14 مايو الجاري.
واحتدمت المنافسة في الحملة الانتخابية، إذ سعى أردوغان إلى حشد قاعدته من المحافظين، ووصف خصومه بأنهم «مؤيدون لمجتمع الميم».
وفي محاولة للاستفادة من النزعة القومية العميقة في تركيا، استغل أردوغان أيضاً تأييد الأكراد لكيليتشدار أوغلو، واتهم منافسه بالانحياز إلى الإرهاب، وبأن له علاقات بحزب العمال الكردستاني، وهي اتهامات وصفها كيليتشدار أوغلو بأنها محض افتراء.
كما لفت أردوغان الانتباه مراراً إلى شريط فيديو تم التلاعب فيه لاتهام كيليتشدار أوغلو بأن له صلات بحزب العمال الكردستاني، الذي شن تمرداً راح ضحيته أكثر من 40 ألف قتيل.
الشعور الديني والكبرياء الوطني
قال المتخصص في التاريخ التركي الزميل غير المقيم في مركز أبحاث إلياميب، نيكولاس دانفورث، معلقاً «مزج أردوغان بين الشعور الديني والكبرياء الوطني، وأظهر للناخبين أنه يعادي بشراسة النخبوية على المستويين المحلي والدولي». وتابع «الناس يعرفون من هو، وما رؤيته للبلد، ويبدو أن كثيراً منهم يوافقون عليها».
وأضاف «ومع ذلك، ليس معنى أن الرياح جاءت بما تشتهي السفن، أن الإبحار سيكون سلساً. سيستمر تدهور الاقتصاد، ولن تنتهي المعارضة، ولم يعد كثير من قادة العالم يحبونه، أو يثقون به، أكثر مما كانوا عليه بالأمس».
خطر على الديمقراطية
ويقول معارضون إن وجوده في الحكم لخمس سنوات أخرى يخاطر بإلحاق المزيد من الضرر بالديمقراطية، التي يرون أنها تعرضت للتقويض مع تركيز السلطة في رئاسة تنفيذية، وتكميم المعارضة، وسجن المنتقدين والمعارضين، والسيطرة على وسائل الإعلام، والقضاء والاقتصاد.
ويصور أردوغان نفسه باعتباره حامي الديمقراطية التركية، الذي رفض التدخل العسكري في السياسة التركية. وقد نجا من محاولة انقلاب عام 2016، عندما هاجم جنود مارقون البرلمان، وقتلوا 250 شخصاً.
وبمساعدة وسائل الإعلام التركية الداعمة له إلى حد كبير، ركزت حملة أردوغان الانتخابية على نجاحاته الاقتصادية، عوضاً عن أزمة تكلفة المعيشة.
وملأ أردوغان الفترة السابقة للانتخابات باحتفالات بإنجازات صناعية، بما في ذلك إطلاق أول سيارة كهربائية تركية، وتدشين أول سفينة هجومية برمائية، التي تم بناؤها في إسطنبول لحمل طائرات مسيرة تركية الصنع.
كما أسرع أردوغان بتسليم أول شحنة من الغاز الطبيعي لمحطة بحرية من احتياطي مكتشف في البحر الأسود، ووعد بتوفير الغاز الطبيعي مجاناً للمنازل، وافتتح أول محطة للطاقة النووية في تركيا في حفل شارك فيه عبر الإنترنت الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
وكان الجانب الاقتصادي إحدى نقاط القوة الرئيسة لأردوغان في العقد الأول من حكمه، إذ تمتعت تركيا بازدهار طويل الأمد مع إنشاء طرق، ومستشفيات ومدارس جديدة، وارتفاع مستويات المعيشة لسكانها البالغ عددهم 85 مليون نسمة.
لكن الاقتصاد أصبح مشكلة سياسية، إذ شرعت الحكومة في سياسة خفض أسعار الفائدة لمواجهة التضخم المتصاعد، وبهدف تعزيز النمو، وأدت السياسة إلى انهيار العملة في أواخر عام 2021، وتفاقم التضخم.
رئيس بلدية إسطنبول
نشأ أردوغان في حي فقير بإسطنبول، والتحق بمدرسة مهنية إسلامية، واشتغل بالعمل السياسي كزعيم للشباب في حزب محلي، وشغل منصب رئيس بلدية إسطنبول في 1994. وقضى فترة في السجن في عام 1999 بسبب قصيدة ألقاها عام 1997، شبّه فيها المساجد بالثكنات، والمآذن بالخنادق، والمؤمنين بالجيش. وبعد أن شغل منصب رئيس حزب العدالة والتنمية، أصبح رئيساً للوزراء في 2003.
ونجحت حكومته في ترويض الجيش التركي، الذي أطاح أربع حكومات منذ عام 1960، وفي عام 2005 بدأ محادثات لتحقيق طموح استمر عقوداً للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي – وهي خطوة تعطلت لاحقاً إلى حد بعيد. ونظر الحلفاء الغربيون في البداية إلى تركيا بقيادة أردوغان، على أنها مزيج حيوي من الإسلام والديمقراطية، يمكن أن يكون نموذجاً لدول الشرق الأوسط التي تكابد للتخلص من الاستبداد والركود.
لكن مساعيه لفرض سيطرة أكبر، سببت حالة استقطاب في البلاد، وأثارت قلق الشركاء الدوليين. واعتبر المؤيدون المتحمسون ذلك مجرد مكافأة لزعيم أعاد التعاليم الإسلامية إلى صميم الحياة العامة في تركيا، ودافع عن الطبقات العاملة المتدينة.
غير أن المعارضين رأوا أن ذلك هو إمعان في الاستبداد.
وبعد محاولة الانقلاب في 2016، شنت السلطات حملة على نطاق واسع، إذ احتجزت أكثر من 77 ألفاً في انتظار المحاكمة، وفصلت أو أوقفت عن العمل 150 ألف موظف حكومي. وتقول منظمات حقوقية إن تركيا صارت أكبر دولة تسجن الصحافيين في العالم لبعض الوقت.
وقالت حكومة أردوغان إن الحملة كانت نتيجة تهديدات من أنصار الانقلاب، وكذلك تنظيم «داعش» الإرهابي، وحزب العمال الكردستاني.
مجمع القصر الرئاسي
وعلى الصعيد الداخلي، يقف مجمع القصر الرئاسي الجديد مترامي الأطراف، المُقام على مشارف أنقرة كعلامة بارزة على سلطات أردوغان الجديدة، أما على الصعيد الخارجي فإن تركيا تستعرض قدراتها بشكل متزايد، وتدخلت في سورية والعراق، وليبيا، وغالباً ما تنشر طائرات مسيرة عسكرية تركية الصنع بقوة حاسمة.
من شأن فوز أردوغان في الانتخابات أن يرسّخ حكمه، الذي غيّر فيه ملامح تركيا، وأعاد تشكيل الدولة العلمانية التي تأسست منذ 100 عام لتلائم رؤيته المتدينة، بينما أحكم قبضته على السلطة، فيما يعتبره المعارضون توجهاً نحو حكم سلطوي.
على الصعيد العالمي، حوّل أردوغان وجهة تركيا، العضو في حلف شمال الأطلسي، بعيداً عن حلفائها الغربيين التقليديين، وأقام علاقات مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وجعل من بلاده قوة إقليمية نافذة.