بقلم/ جمال فتحي
في ديوانها الصادر عن دائرة الثقافة بالشارقة بعنوان ” عليا النوايف” تعيد إلينا الشاعرة علياء العامري شموخ المرأة العربية القديمة واعتزازها بذاتها لاسيما المرأة الشاعرة وفخرها بقومها ومروءة مجتمعها وكرم أهله وتتردد في أرجاء ديوانها أصداء قصائد شاعرات العرب العظيمات على مر العصور من أروى بنت عبد المطلب للخنساء مرورا بليلى الأخيلية وولادة بنت المستكفي وغيرهن كثيرات ممن بقيت أشعارهن في مناطق مضيئة في التاريخ الأدبي والشعري لما حققنه في أشعارهن من فصاحة وحكمة وفي حياتهن من إباء وحضور بديهة ورشد في الرأي واعتداد بالذات فضلا مكانتهن الاجتماعية ومنازلهن في أقوامهن .. وإذا كن قد تركن ميراثهن الشعري باللغة الفصحى فإن علياء العامري نافستهن بأعذب الأشعار الشعبية النبطية التي تنطلق في تصورها للشعر والحكمة ومواقف الحياة من ذات المضامين القديمة التي اعتنقتها الشاعرات السابقات وغيرهن.. وفي الشعر الحقيقي لا فرق كبير بين الفصيح والشعبي أو النبطي فهما جناحان لطائر واحد كلاهما يحمله للسماء، بل إن الشعر الشعبي وميراثه العريق سجل الكثير من الفضائل وحافظ بقوة على الهوية والطقوس والثقافة والعادات الموروثة جيلا عن جيل وكما جاء نصا في مقدمة الديوان بتوقيع ” مجلس الحيرة الأدبي” فإن الشعر النبطي يملك قدرات” تمكنه من صون التراث وحفظ الهوية الوطنية للمجتمعات والشعوب.
***
لم تنشغل العامري بما انشغلت به الشاعرات المعاصرات من هموم وشواغل سطحية و ومشاعر مصنوعة والتفات لأقنعة العصر وإن كان للعامري نصيبها من التعبير عن هموم الذات الخاصة لكن الجانب الأكبر من قصائدها ذهب باتجاه إيقاظ همة المرأة الحديثة واستدعاء ماضيها وتذكيرها بدورها الحقيقي وبكون فخرها الحقيقي أنها امرأة ذات حسب ونسب تلتزم قواعد مجتمعها وتحتشم في ملبسها ولا تنساق وراء دعوات العصر الخبيثة مما تتخفى تحت ستار الحريات والمساواة وغيرها بينما نتيجتها الحتمية هدم بنيان البيت والأسرة العربية وربما مجافاة الدين والعادات السليمة والتقاليد الموروثة جريا وراء أوهام لا تسمن ولا تغني من جوع بل وتؤدي بها إلى السقوط المهين في فخ الابتذال وبالنظر إلى نشاط الشاعرة الاجتماعي وجهدها اللافت في العمل العام والتطوعي نتأكد أن ما تكتبه العامري في أشعارها ليس من فراغ، وإنما هذا فعلا ما تدعو إليه وتؤمن به ويصدقه فعلها لأنها ببساطة وكما يبدو للمتأمل شاعرة وإنسانة صاحبة رسالة.
إذن ليس صدفة أن تبدأ قصائد القسم الأول من ديوانها والمعنون بـ ” وجدانيات” بثلاث قصائد تحمل كل منها دلالة قوية هذه القصائد بترتيبها هي “مولد النور، نور الهدى ، ورود المشاعر”، فتقول في الأولى مدحا في الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم:
كانت ظلام وجهل.. فوضى ومتاهات ** وجيت بصلاح عمر أرواح وصدور
في مولدك هالأرض جتها البشارات ** وكل صدر صار بذكر باريه معمور
تنفس الكون البهى بالمسرات ** وارتاح من آلام وحروب وشرور
***
وتقول في الثانية دفاعا عن الإسلام والقرآن الكريم :
” قرآننا”.. تبت يدين الرديين ** مهمها سعيته زاد قدر وطهارة
عميان رأى.. بلا بصيرة ولا دين ** يعجبهم إن الحال زاد انحداره
إسلامنا يقلى كبود الحقودين ** من لاحظوه أنه يزيد انتشاره
حرية التعبير عذر الخبيثين ** وسيلة الإلحاد باسم الحضارة
وهكذا من البيت الأول في ديوانها – وبترتيب مقصود – تكشف للقارئ عن جوهرها وتعلن هويتها وتخط طريقها الشعري وتحتفي بالمعلم الهادي البشير وتعتز بقرآنها الكريم وتعاليمه وتقدسه ضد هجمات الإلحاد والحرق من الكارهين لكلام الله وكأنها من البداية تريد أن تقول لمن سيقرأ .. نعم أنا تلك المرأة التي لم تستجب لدعوات العصر من الانحلال وغيرها … وما زالت تتمسك بدينها وتعاليمه وتهتدي بنبيها وسنته وتفهم جيدا وتنتبه لدعاوى العصر الخبيثة بل وتحذر منها.. وليس صدفة أيضا أن تتبع هاتين القصيدتين بقصيدة ثالثة هى” ورود المشاعر” تطوف فيها حول ” الأم” في عيدها وتتغزل في عطائها وحنانها وتتمنى لو أنها تستطيع أن تهبها حياتها مؤكدة أن كل حروف وكلمات وأشعار الدنيا لا تسعفها في التعبير عما تكنه لها من مشاعر ومما تقول في تلك القصيدة:
“أشعلت لك شمعات أحاسيسي أنوار ** ومشاعري يا أمي ورود وأغاني
“جابر” تصير اشعاري طيور واشجار ** مهما كتبت لك يا بعدى ما كفاني
كل عام وأنت يا أمى شموس ** وأقمار وتصافح الأرواح في كف حاني.
وهكذا تحتفي بالأم وتشعل لها أحاسيسها شمعات وتقدم لها مشاعرها ورود وتتمنى لو تصبح أشعارها طيورا وأشجارا تحيط بجمال الأم الغالية .. وهنا تكتمل بنود الدستور الذي أعلنته الشاعرة في مفتتح ديوانها .. والذي يشكل مثلث أضلاعه القرآن وسنة النبي وحب الأم ورضاها.. وتأتي بعد ذلك قصائد الديوان في اتجاهات مختلفة مما يشغل بال الشاعرة ويشغل بال الكثير مثلها لكنها دائما تطرح تساؤلاتها الشعرية وقصائدها في كل موضوع تناولته وفق مضمون ذلك الدستور الذي كشفته في البداية وعلى هداه سنقرأ الكثير من القصائد التي تذهب في اتجاهات وأغراض شتى لكنها تظل قابضة على خيط القيمة العليا والمبدأ الأهم .
***
الشعر “كسرة من نحايل عظامي” الشاعرة
وإذا كان لكل شاعر أو شاعرة موقف ما من ” الشعر” ذاته وفهم خاص لطبيعته ودوره وقد سجل الشعراء على مر العصور موقفهم من الشعر وتصورهم له وقيمته في حياتهم فبعضهم وظف موهبته الشعرية في مدح الخلفاء والأمراء وتكسبوا على مر العصور ومنهم من تحول إلى أشد الهجاء حينما انقطع عنه العطاء وللمتنبي مشاهد وحكايات يكتنزها التاريخ الأدبي وتاريخ الرجل في هذا السياق لكننا حين ننظر لأشعار النساء سنجد أن قصائدهن لم تهتم كثيرا بالتصريح أو التوضيح أو ربما التركيز على فهمهن الخاص لطبيعة الشعر وقيمته لديهن غير أن علياء العامري منحت هذا الأمر اهتماما لافتا جعلها تؤكد في أبياتها على سؤال هام.. ما الشعر في نظرك وماذا يشكل لك؟ فتقول في قصيدة “عليا النوايف” وفيما يشبه شهادة أدبية تكتبها الشاعرة شعرا تسجل فيها موقفها النفسي والوجداني وتصورها الذهني والمعرفي وربما الأخلاقي أيضا للشعر كما تفهمه وتراه بل وكما تكتبه :
الشعر فخر وعز وإحساس سامي ** وعز المعاني للقصايد وصيفه
“يا سامعين الشعر ها كم كلامي ** رصعته بدر المبادي الشريفة
يوم كتبته واعتزازي لزامي ** أنا وقصيدي في ثياب العفيفة
هو مزملى..هو هاجسي.. هو وسامي ** شعري ثقيل الروز يا أهل الحفيفة
ما خذ من اطباعي ونهج التزامي ** أدر سعة.. بكيفي أنا هب ع كيفه
ما ييت أجامل به كبار الأسامي ** ييت أوهبه لأهل النفوس النظيفة
أسقى به رمال القلوب الظوامي ** ويلقى به الذويق فيه وريفه
قصيدتي مثلى تعشق التسامي ** كالحر في عليا النوايف رفيفه
الشعر كسرة من نحايل عظامي ** لا هو ترف والا حكاوي طريفه
إما يجي سيف صقيل ودامي ** وألا ذبل مثل الورق في خريفه.
وكما نرى فإن تلك الشهادة العميقة جدا عن الشعر الحقيقي التي تعرفه وتفهمه وتشعر به وتكتبه الشاعرة جاءت مركبة متباينة تنطوي ليس فقط على تصورها الخاص للشعر وفهمها لطبيعته بل جاءت بما يشبه إعلان دستوري شعري يكشف المبادئ الشعرية التي تكتب العامري وفقها وتعيش حالاتها الشعرية تحت سقفها وإذا كان البيتان الأخيران يكتنزان تعريفا خاصا جدا للشعر بأنه وعلى حد تعبيرها” كسرة من نحايل عظامي” فإن البيتين ذاتهما ينفيان عن ” الشعر” ويسموان به أن يكون ” ترف” وحكاوي” فارغة من القيمة والمضمون.. بل وتؤكد بأنها لا تقنع ولا تعترف بنص شعري إلا إذا جاء مثل ” سيف صقيل ودامي” وصقيل هنا صفة على وزن “فعيل” بمعنى “مفعول” أى مصقول والوصف يقرن بين النص الشعري البليغ المفعم بالخيال والطزاجة والتصوير المدهش والسيف الحاد المزركش بالدماء وليس في التشبيه غرابة إذ يظل السيف أو” الحسام” والمهند” وغيرها من أسماء السيف وصفاته أحد أهم ركائز خيال الشعر العربي وهو في نظري تشبيه غاية في الروعة استطاع التعبير بجدارة عن المعني التي ترمي إليه الشاعرة ، أما إذا عدنا لأبيات القصيدة من البداية فسنرى أنها ترسم أبعادا وتوضح أدوارا وأغراضا للشعر تراها الشاعرة وتقوم بها وفق قناعاتها الشعرية والمعرفية الخاصة فكما تقول: الشعر هو فخرها وعزها تكتبه وفق مبادئها الصادقة هو ” مزملها ” و “هاجسها” ووسامها التي تنشغل به دائما على حد تعبيرها: كما تؤكد الأبيات أو ” مبادئ الدستور” أن الشاعرة ترتفع بشعرها أن تجامل به أحدا مهما كان وأنها فقط تهبه بكل ما فيه من صدق لأصحاب النفوس النظيفة من البشر وأنها كذلك تسقى به ” رمال القلوب الظوامي” وتجعله واحة يلتقى فيه ” الذويق” رفيفه.. وتؤكد أن ” قصيدتي مثلى” كالحر في عليا النوايف رفيفه.. وكأنها تؤكد في أبياتها أن الشعر مرآتها وأن قصائدها وجهها الصادق وحقيقتها الثابتة والحقيقة أن الديوان المليء بالقصائد الرائعة فأنا أعتبر تلك القصيدة هى “سرة” الديوان وقلبه ودستوره وجوهره لأنها كالعدسة المكبرة تستطيع أن ترى عبرها كل قصائد الديوان بعين مختلفة وحسنا فعلت الشاعرة حين نحتت منها عنوان الديوان.
***
شاعرة لا تعبأ بأحد ولا تسير إلا إلى القمم
ولمزيد من الوضوح في التعبير عن الذات تقدم الشاعرة نفسها في ثوب من الثقة والاعتزاز بالتجارب الحياتية والحكمة التي اكتسبتها بمرور السنوات وتفخر جدا بكونها شخصية حازمة واضحة لا مراوغة ولا مهتزة ولا تشغل بالها إلا بطموحها الذي لا حد له مما يجعلها من الباحثين دائما عن القمم ، لا تلتفت لقول حاقد ولا نفس حاسد وتقر هنا أن الخلق والبشر أشكال وألوان منهم الطيب النقي ومنهم الخبيث المتلون، لكنها لا تعبأ إلا بهدفها ولا تبحث إلا عن تحقيق طموحها منشغلة بالسير دائما إلى الأمام.. كل هذا وأكثر تكشفه أبياتها في قصيدة ” ذخر وذخيره” وتنافس في قصيدتها تلك كل ما قاله الشعراء الرجال الذين نظموا أروع الأبيات في الاعتزاز بما حازوه من شجاعة وحكمة من عنترة وزهير بن أبي سلمى و كل من جاء بعدهم فتقول:
“يمر الوقت والدنيا مدارس ** وتجاربنا من الدنيا كبيرة
وطموحي بفضل مولاي ايتجدد ** وأنا بروس القمم نفسي جديرة
أنا من قمة لقمة مسيري ** أحب الأولة ما أهوى الأخيرة
ولا عمري التفت لقول حاسد ** أحث السير والهمة كبيرة
عرفنا الناس من طيب ووافي ** وكشفنا ناكر الطيب وخشيره”
وهكذا تستدعي العامري في قصائدها شموخ وقوة المرأة العربية عبر تاريخها وصلابتها وتحديها للصعاب وقدرتها على أن تشارك وتقاسم الرجل صنع البطولة والنصر والنجاح ليس هذا فقط بل تنافسه فصاحة اللسان وحسن البيان وروعة التعبير ولنتأمل قولها أيضا: في قصيدتها ” الفكر المعاق”:
“ما بقاموس الحياة اية محال ** والإرادة تسكن القلب الصميل
الحواجز لو علت ..عندي محال ** ما عرفت اليأس والا المستحيل
كم رقيت بهمتي شمم الجبال ** كم صبرت ونلت محصول جميل
إن بغيت الشي لو صعب المنال ** بالكفاح يكون ..والرب الوكيل”
ما يفرق نسا ولا رجال ** نستخف الحمل لو إنه ثقيل
وهكذا فإن الأبيات تتحدث بما يكفي من علو الهمة وصلابة الروح وجسارة القلب وديمومة الحلم والطموح وشدة العزم والصبر على تحمل الأحمال بلا فرق بينها وبين الرجال في قوة الإرادة .. وهنا نرفع القبعة للشاعرة التي تعيد للمرأة العربية حقيقتها وتذكرها بمجد سابقاتها ممن صنعن بوعيهن وثقتهن تاريخا مشرفا جنبا بجانب الرجل في كل الميادين.. ومن هنا نشعر وكأن شاعرات العرب من كل العصور وقفن يبتسمن من وراء ستار نصوص ديوان العامري الذي يعيد للمرأة العربية شاعرة كانت أم غير شاعرة يعيد لها رونقها ومكانتها ووقارها وحشمتها وفخرها بحسبها ونسبها وفخرها كذلك ببلاغتها وقدرتها على صوغ القصائد في أبهى صورة من البيان والفصاحة
***
هموم خاصة ومشاعر راقية
لكن هل معنى هذا أن قصائد علياء سارت كلها في اتجاه شحذ الهمم والتغني بالصلابة في مواجهة المحال والدعوة إلى التمسك بالقيم الراقية والأخلاق الحميدة وغيرها من الرسائل القيمة ونسيان التعبير عن رقة المشاعر ولهيب الأشواق وألم الفراق ولوعة الحنين ..لا والله بل برعت في هذا أيضا لكنها في نظري فضلت كما أشرت سابقا أن تبدأ ديوانها بترتيب مقصود في نظري ليفهم اللبيب أن للشاعرة أولويات في سلم القيم الإنسانية وأن مشاعرها منظمة وتدعم بكتابتها الشعرية ما يؤمن به عقلها الواعي وما تعتنقه من أفكار وما تلتزم به من مبادئ وما تحترمه من عادات مجتمعها وتعاليم دينها، لكنها فضلا عن ذلك قدمت لنا عددا من القصائد أحاطت برقيق اللفظ ونعومة المفردة عن ” الحب” بمعناه الواسع وتأويلاته المنفتحة ودلالاته الغنية والتي تجاوزت الإشارة للحبيب الرجل إلى كل ما يمكن أن تشير له عاطفة الحب النبيلة من معان سامية وميل رشيد تجاه الأبناء والأسرة والوالدين والأصدقاء والأوطان ..ومن تعبيراتها الرشيقة عن العاطفة الصادقة ما قالته في قصيدة “لظى الأشواق” وهي القصيدة التي أدتها بعذوبة فرقة الشلات الحربية وهي متاحة على ” اليوتيوب” – ولها أيضا الكثير من القصائد المغناة- وتسجل حالة شرود قلب المغرم وانشغال البال بالحبيب ولوعة الشوق إليه والحنين إلى لقائه ومجالسته:
“ألا ياصاحبي في اليوف حره ** ويوفك من لظى الأشواق بارد
أدق الخط لك عشرين مرة ** من الصادر ولا بينت وارد
أنا ما يحتمل قلبي تفره ** على درب به الأخطار تارد
وشوقي لو يزيد اليوم ذرة ** تفجر خاطري والبال شارد
سهم حبك دخل في قلبي ضره ** وخلاني دليه القلب شارد”
***
وقد تعددت الأغراض وتنوعت المضامين وتباينت الموضوعات التي قدمتها الشاعرة في ديوانها كما سنرى مما أضفى المزيد من الثراء على ديوانها حيث احتشد الديوان بكل ما يمكن أن يجذب النفس ويروي ظمأها من أعذب التعبيرات وأجود الصور الشعرية ولم يتوقف هذا التنوع والتعدد الشعري على الأغراض والمضامين بل شمل الإيقاعات ذاتها والموسيقى التي صاحبت القاموس الشعري إذ قدمت الشاعرة أشكالا موسيقية وإيقاعية متنوعة استدعتها الحالات الشعرية المختلفة والوجدانيات التي ذهبت بالقلب والروح في كل اتجاهات المشاعر فضلا عن تنوع أساليبها التعبيرية وأدواتها الشعرية وألوانها البلاغية التي قدمت من خلالها صورة ناصعة عن ثقافته وامتلاكها ناصية القصيدة الشعبية
وعندما نتوقف أمام بعض الأغراض اللطيفة مثل تلك القصيدة التي سجلت فيها تجربتها في الغربة والبعد عن الوطن ورغم أن الغربة كانت لفترة بسيطة لم تكمل شهرا لكنها كانت تجربة جديرة ببث مشاعر الشجن والحنين في وجدان الشاعرة لتسارع بتسجيلها في قصيدة” فترة سفر” ..وكذلك بعض القصائد التي تصدت لموضوعات اجتماعية حتى إن الشاعرة ضمتها في قسم خاص بالديوان حمل هذا الوصف ومنها مثلا: قصيدتها” أهل التطوع” عن التطوع وقيمته وسمو أهله، وكذلك قصيدتها” حال الأطبة” وتنتقد فيه حال الأطبة مع المرضى وبحث بعضهم فقط عن زيادة رواتبهم دون الاهتمام بأحوال مرضاهم ..والحقيقة أن هذا القسم شهد عددا من القصائد التي انتقدت ميل الفتيات من الأجيال الصاعدة إلى التقليد الأعمي للموضة والتقاليع سواء في الملبس أو الانشغال التافه بوسائل السوشيال ميديا وما تصدره وتحتوي عليه من تفاهات وسفه واضح ينزل بالعادات والقيم أحط المنازل وكل هذا يتماشى مع ذلك الدستور الذي التزمت به الشاعرة من بداية الديوان من التزام المبادي والحشمة والدعوة دائما إلى كل سلوك قيم كما قالت نصا في قصيدتها ” أم المخوّر”
نحن بنات أم المخوّر والعباه / نلبس من الحشمة ملابس ضافية
أم تربينا على تقوى وصلاه / وعن حشمة الملبوس وما هي غافية
نتبع طريق الدين في كل اتجاه / نحاضي تقاليد وعوايد صافيه
وفي المقابل تنتقد ما انتشر من بدع غريبة فتقول مثلا في قصيدة “عولمة” :
دلال ومال ..ونقشة دلع تالى الزمن والله..
بنات وشال مع موضة خطيرة ولبس متقطع
تشوف البنت مهبولة وتجهل شيء تفطن له
بعد ما كانت بخيمة وتلبس توب مع برقع
***
وتنتقد كذلك “موجة التفاهة” في مربعاتها بعنوان ” علاج المدعين”
داخل التوك توك تفاهة
واضحة فيها الشراهة
وناس ما فيها نباهة
يتابعون الفارغين
***
لا إسلوب ولا ثقافة
طرح فايح بالسخافة
يا كثر فيهم لقافة
عـ الخطا متجمعين
وفي تلك القصيدة التي تتصدى فيها لكثير من الأمور التي لا تتماشى مع الثقافة والتقاليد التي نشأت الشاعرة في كنفها وتربت عليها والتزم بها المجتمع عقودا نلحظ اختلاف الإيقاع وخفة السطر الموسيقى ورشاقة البحر الذي يناسب الطرح الشعري
حيث التزمت فيها قافية واحدة لقفل جميع المربعات بينما اتفقت الثلاثة أبيات الأولى في كل مربع بقافية موحدة وهو شكل من أشكال التربيع وأحيانا يكون بتطابق قافية الأول مع الثالث والثاني مع الرابع وهو جانب مما أشرنا إليه من متعة التنوع الذي قدمته علياء العامري في ديوانها
***
الأصوات والجناس و التشكيلات الصوتية
وللإشارة كذلك على ذلك الثراء ما لفت انتباهنا أكثر من مرة من تنوع أساليب العامرى وقدرتها على تقديم تنويعات لاسيما في اهتمامها بالحروف والأصوات وتشكيلات الجناس بأنواعه وقدرة تلك الأصوات والحروف على صنع موسيقى خاصة داخلية تضيف للموسيقى الخارجية وللبحر الشعرى الذي التزمته إضافات لافته تثرى النص وتزينه ونقف هنا مثلا أمام قولها في قصيدة قمر ليلي:
“إنت روحي وإنت مربوحي / وإنت راحي وطب الجراحي
يا دوا قلبي ومصلوحي / فيك مغرم حيل يا صاحي”
ولعل اتكائها هنا على إشعاعات صوت ” الحاء” بما يكتنزه من هالات وإيحاءات وصور ودلالات يستدعيها للذهن يؤكد على وعيها وقصديتها في التعامل مع الحروف والأصوات ومعرفتها بطاقات تلك الأصوات ومخزونها التعبيري المدهش فالحالة في النص حالة هيام وهوى وغرام يسكن القلب ولحرف الحاء مخزون من الخفوت والهمس ما يناسب رقة تلك المشاعر ويظهر كثيرا في كلمات مثل : حب حنان / حنين / / حرية/ حلم وكلها مفردات تنطوي على مشاعر جياشة ورقة وحب ورحمة وهو ما جعل الحرف حاضرا كذلك في أسماء الله الحسنى ” الرحمن ـ الرحيم ، الحي ، الحكيم، الحليم لما تكتنزه تلك الأسماء والصفات من المعاني نفسها وبشيوعه في البيتين وبقية أبيات قصيدة الشاعرة تهيمن تلك الحالة وتؤكد حضورها في النص.
ويمكننا في السطور القادمة أن نتأمل جانبا آخر من اهتمام الشاعرة وميلها لتوظيف الجناس بأشكال متعددة مع استفادة كبرى من إمكانات الصوت/ الحرف
ومن أمثلة ذلك قولها في قصيدة “شمعة احساس”:
“لان ودك يا الغلا سوى ارتباك.. في حياتي والغلا بين الضلوع”
وقيمة ” الجناس” التام في مفردة ” الغلا” حيث تتطابق الحروف بينما تذهب المعاني في اتجاهات شتى مما يفتح شهية الذهن للإقبال على الفهم والتأويل والتفاعل مع النص
***
وتكرر الأمر بوعى لافت وقصدية واضحة بحيث لا يتسع المقام للوقوف أمام جميع الأمثلة ونكتفي فقط بمثال آخر من قصيدة “شي غامض” تقول:
“لين صار الحزن متركي/ واعذابي والزمن فارض
أسبك الأشعار من سبكي/ وفي الشعر ما عندي مفارض
اعتراني في الزمن شكي/ ضعت في المرفوض والرافض”
وهنا يؤدي توظيف مفردة واحدة مثل ” فارض” بمعان مختلفة تنتج عن تغيير ترتيب الأصوات وخلق جرس صوتي لافت يؤكد إدراك الشاعرة لقيمة تلك الأداة البديعية في إضفاء المزيد من البديع على نصوصها
ويمكننا في إطار الحديث عن التنوع والثراء الإشارة إلى ما ختمت به الشاعرة ديوانها من نماذج مضيئة لبعض المساجلات الشعرية بينها وبين عدد من الشعراء والشاعرات والمساجلة فن معروف وله حضور في عمق القصيدة الشعبية الخليجية مما جعل قسم المساجلات مسك الختام وجعل الديوان أشبه بوجبة شهية متنوعة ودسمة احتوت على ما لذ وطاب من طيب المعاني وشهد الكلام..