بقعة ضوء يسيرة تخترق الجزء الزجاجى القابع بمنتصف الباب الحديدى لغرفة العناية المركزة داخل مستشفى الشفاء فى قطاع غزة، يتشبث بها أهالى مرضى السرطان يسترقون النظر على عجل، آملين أن تلمح أعينهم سريراً أو مكاناً فارغاً بين مصابى العدوان الإسرائيلى على قطاع غزة، ليتمكن ذووهم من الدخول.
وتلقِّى العلاج الذى بات شحيحاً ومحدوداً للغاية، وداخل غرفة العناية يتراص عدد قليل من الأسرّة يتمدد فوقها مصابو الأورام الخبيثة، وعلى بُعد خطوات منهم يرقد آخرون على الأرض ينتظرون دورهم فى جرعة العلاج الكيماوى قبل أن يضج المستشفى بأصوات مرتفعة «إصابة خطيرة بدنا سرير»، ليتبدد آخر أمل للعلاج.
«هندية»: قصف «المعمداني» تسبّب فى سقوط شهداء وقضى على آمال المرضى فى العلاج
معاناة قاسية ومريرة يعيشها مرضى السرطان وذووهم بعد أن ازدادت أوضاعهم سوءاً عقب العدوان الإسرائيلى على قطاع غزة، وعلى أطلال مستشفى الأهلى المعمدانى جنوب قطاع غزة تجلس هندية الماحى، 40 عاماً، ربة منزل.
بينما يتوسد نجلها «مروان»، البالغ من العمر 15 عاماً، الأرض واضعاً رأسه بين يديها، يصارع الموت على حد وصفها، وإلى جانبها حقيبة من القماش المهترئ تضم ملابس كانت معدة للإقامة فى المستشفى: «إحنا من سكان حى الزيتون، ومروان ابنى الوحيد ومريض سرطان الغدة الدرقية من 3 سنوات وبعد وفاة والده بشكل مفاجئ قبل عام، صرت أنا اللى مسئولة عنه بشكل كامل وكنا بنيجى المستشفى المعمدانى كل أسبوعين علشان ياخد جرعة العلاج، ومش دائماً كانت متوافرة بسبب الحصار، ولكن حالياً المستشفى انقصف وما فيش علاج خلاص ومن وقتها واحنا قاعدين هنا مش عارفين إيش نسوّى أو وين نروح»، قالتها الأم المكلومة بعيون يملأها القهر وقلة الحيلة، متابعة لـ«الوطن»: «قصف المعمدانى مش بس تسبّب فى وقوع شهداء، لكن كمان مرضى السرطان ما ضل مكان ليهم يروحوا يتعالجوا فيه».
الحالة المزرية التى تعيشها السيدة الأربعينية لم تكن الأولى وليست الأخيرة داخل القطاع، إذ يعانى الآلاف من مرضى السرطان الأزمة ذاتها، ففى مستشفى ناصر بمدينة خان يونس جنوب القطاع اضطر المرضى إلى إخلاء أسرّة العناية المركزة بسبب نفاد الأدوية الخاصة بهم.
وتقول الثلاثينية آمنة أبوليلة، إنها اتخذت تلك الخطوة بعد أن حملت ابنتها «فرحة»، صاحبة الـ10 سنوات التى لا تقوى على الوقوف أو السير على قدميها عقب إصابتها بسرطان العظام، متوجهة للإقامة فى منزل أحد أقاربها قبل أن تستهدفه غارات الاحتلال الإسرائيلى، لتنزح برفقتهم إلى المخيم الذى أقامته وكالة الأمم المتحدة «الأونروا» بالمدينة ذاتها دون أن تستطيع السيدة الثلاثينية إخفاء قلقها وخوفها على حياة ابنتها: «لو ما متنا من القصف ففرحة بنتى هتموت من نقص العلاج، صار لها أكتر من أسبوعين ما أخدت العلاج وحالتها بتزيد سوء وأوقات بتغيب عن الوعى، كل أملى بس تاخد جرعة الدواء قبل فوات الأوان».
«أم حامد»: استسلمت لقضاء الله نظراً لعجزى عن التوجه إلى المستشفى لصعوبة الحركة واستمرار القصف
فقدان الأمل فى الحصول على جرعة الكيماوى كان بمثابة شبح واجهته «أم حامد»، كما تفضل تعريف نفسها، ذات الـ55 عاماً، التى لا تزال مقيمة برفقة حفيدها «طايل»، 20 عاماً، داخل منزلها المكون من 3 طوابق الذى دمرته غارات الاحتلال الإسرائيلى بحى الرمال وسط قطاع غزة.
وكُتبت لها النجاة: «من 5 سنوات أُصبت بسرطان الثدى وأجريت عملية لاستئصاله، ومن وقتها أُجرى مسحاً كل فترة وأحتاج آخد جرعات علاج عشان ما يرجع ينتشر ثانى فى باقى جسمى»، إلاّ أنّ عمليات القصف المستمرة التى طالت المنازل والمنشآت، بما فى ذلك استهداف للمستشفيات ومحيطها، إضافة إلى الطرقات والشوارع المدمَّرة، كانت سبباً لأن تلتزم السيدة الخمسينية بالبقاء فوق منزلها المنكوب حتى يأتى أمر الله على حد تعبيرها.
وتتابع: «الموت علينا حق، والله نجّانى لما انقصفت الدار، وهو قادر ينجينى لحد ما الحرب تخلص وأقدر أتحرك للمستشفى.. أنا مش بقدر أتحرك لوحدى لأنى عندى مشكلة فى رجلى، وحفيدى هو عكازى وسندى بعد ما نزح كل ولادى للجنوب وهو اللى ضل معى، وبخاف عليه من القصف إذا طلعنا للشارع».
«الفرا»: انهيار المنظومة الطبية والنزوح للمستشفيات تسبّب فى تفشى الأمراض الفيروسية والبكتيرية بين سكان القطاع
اعتاد حامد الفرا، 60 عاماً، موظف بشركة الاتصالات، أحد سكان مخيم جباليا الواقع شمال شرق مدينة غزة، أب لأسرة مكونة من زوجة و5 أبناء، على روتين العلاج المقدم له فى مركز «غزة للسرطان»، لكونه يعانى من المرض الخبيث منذ ثلاثة أعوام.
لكنّ علاجه توقف قبل شهرين بسبب نقص الأدوية جرّاء الاعتداءات الإسرائيلية على القطاع، إلاّ أنّ العدوان الإسرائيلى الأخير عمّق من معاناته، إذ حاول «الفرا» المصاب بسرطان البنكرياس، أكثر من مرة، شراء الأدوية من مصادر أخرى، لكن دون جدوى: «الحرب ضاعفت من ألمنا كمرضى سرطان، والأدوية تكلفتها مرتفعة ولا أستطيع تحملها، وعدم حصولى على العلاج فاقم وضعى الصحى وزاد من تفشى المرض وأدى إلى ظهور أعراض مرضية جديدة وتراكم السوائل فى البطن».
آمال الموظف الستينى تركزت على تقديمه طلباً للسفر خارج القطاع نحو مشافى مدينة القدس المحتلة لتلقِّى العلاج بشكل دورى، إلاّ أنّ رحى الحرب التى دارت فى السابع من شهر أكتوبر قضت على مخططاته لتذهب أدراج الرياح: «مرتبى الشهرى يسير وعندى ابن مصاب بإعاقة عقلية ويحتاج متابعة طبية بشكل مستمر وكنت أحاول الموازنة بين احتياجات نجلى الصحية وبين توفير مبلغ للسفر إلى القدس للعلاج، لأن المشافى هناك تكلفتها عالية، ولكن اللى صار إن دارنا انقصفت وراح معاها كل شىء، الموت بيلاحقنا من كل مكان وين ما نروح».
ولفت إلى أنّه لم تعد أعراض ومضاعفات مرض السرطان وحدها كافية لإنهاء حياة المصابين، ولكن النزوح للمستشفيات التى تعج بالمرضى وضحايا العدوان الإسرائيلى سبب آخر لتعميق معاناتهم: «هناك أنواع أخرى من البكتيريا والفيروسات بدأت تصيب النازحين وبالتالى فإن مريض السرطان الذى يعانى من ضعف المناعة معرض بشكل كبير ومباشر للإصابة بها بسبب انهيار المنظومة الصحية».