«اسأل عن اللي يقضّي الليل بين الأمل وبين الذكرى.. يصبّر القلب المشغول ويقوله نتقابل بكرة.. وبكرة يفوت وبعده يفوت ولا كلمة ولا مرسال.. وهو العمر فيه كم يوم وأنا بُعدك عليّ طال.. يا ناسيني وإنت على بالي وخيالك ما يفارق عيني.. ريحنّي واعطف على حالي وارحمني من كُتر ظنوني»، كلمات لخّص بها شاعر الشباب أحمد رامي، إحدى علاقات الحب المستعصية، التي كان هو بطلها لسنوات زادت عن الـ50، وتغنت بها أم كلثوم الحبيبة التي تغاضت عن هذا الفتى العاشق، واكتفت بأن تكون ملهمته القادرة على جذب شيطان الشعر إلى أفكاره، يشتعل هو حبًا وتزدهر هى طربًا.
«أقول لروحي أنا ذنبي إيه؟.. يقولي قلبك حلمك عليه.. مسيره بكرة يعطف علينا ونبقى نعرف هجرنا ليه؟»، في عشرينيات القرن الماضي، تعرّف أحمد رامي، إلى الشابة القادمة من قرية طماي الزهايرة بالدقهلية، وهى ترتدي «القفطان وتضع العِمة والعقال فوق رأسها»، عن طريق الشيخ أبوالعلا محمد، الذي قدمها إليه هذه «أم كلثوم» صوت من السماء.
يستمع «رامي» إليها يُفتن بها، ويزداد عالم العشاق واحدًا قادرًا على الكتابة والتعبير عن لوع العشق، وآهات الحب، وتنهيدة «اللي حبّ ولا طال شئ»، خصوصًا عندما تكون الفتاة القروية كتلة ذكاء تعيش في عالم الفن، لا تستجيب لطائر الحب الذي يرفرف حولها من كل صوب، ولا تمنحه بارقة أمل حتى تظل ناره مشتعلة بأشعاره، يشتكي منها «يا ظالمني»، وترد هى بكل بقوة «هجرتك».
أول لقاء عام 1924
«يا مسهّر النوم في عنيّا سهرّت أفكاري وياك.. الصبر ده مش بإيديا والشوق واخدني في بحر هواك»، 124 عامًا تمر على ذكرى ميلاد كوكب الشرق، التي ولدت قبل نهاية القرن التاسع عشر عام 1898، عاشت في الحياة 77 عامًا، من بين هذه السنوات 50 عامًا ويزيد، كان هناك عاشقًا معذبًا اسمه أحمد رامي، طيلة هذه الفترة وهو يعبر لها ومن أجلها بكلماته عن الحب والهجر والدلال والحيرة منذ أول مرة رأى فيها «أم كلثوم» عام 1924.
ليقدم معها ما يزيد عن 100 أغنية «الصب تفضحه عيونه، حيرت قلبي، رق الحبيب، غلبت أصالح، يا طول عذابي، سهران لوحدي، يا ليلة العيد»، وكانت آخر ما تغنت به مع بداية السبعينيات «يا مسهرني» كتبها «رامي» متيمًا بالحب رغم آلامه «أنا عندي كلام بِدي أقوله لك.. وفي قلبي هيام أوصفهولك.. ونعيش أيام ولا في الأحلام.. ياناسيني وإنت على بالي».
رثاء الحبيب
ترحل أم كلثوم من الحياة عام 1975، آن لهذا الصوت العملاق أن يستريح، ولهذه العيون التي طالما شهدت أعظم النجاحات، وأشد الهتافات والآهات التي تخرج من صميم قلب «السميعة» أن تغفو طويلًا، أبّى عشاقها أن تمشي وحيدة، سار في ركاب جنازتها الملايين الذين جاءوا من كل مكان، حاملين صورها التي تزينها بشموخها، يبكون ويصرخون «مع السلامة يا ست».
ينعزل أحمد رامي، طويلًا فقد ملهمته وحبيبته التي عاش من أجلها ولم يجرؤ أحد على الاقتراب من المساحة التي منحها إياها في قلبه، حتى ولو كانت زوجته التي تفهمّت مشاعره رغمًا عنها ورغم الظنون التي أحاطت بها، وأدركت أن «أم كلثوم ورامي.. عشق من نوع خاص مُنزهًا خاليًا من الآثام»، يبكي العاشق بكلماته وهو يرثي محبوبته في حضور رئيس الجمهورية أنور السادات «ما جال في خاطري أنّي سأرثيها.. بعد الذي صُغت من أشجى أغانيها.. قد كنت أسمعها تشدو فتُطربني.. واليوم أسمعني أبكي وأبكيها.. صحُبتها من ضحى عمري وعِشتُ لها.. أدفَُ شهد المعاني ثم أهديها».