لقد كان قرار القائمين على الحوار الوطني بإفراد لجنة كاملة للثقافة والهوية المصرية ضمن المحور المجتمعي للحوار الوطني صائبًا ورسالة مهمة بأن الحوار الوطني لا يعني فقط حوارًا في قضايا السياسة أو الاقتصاد أو التكافل الاجتماعي أو العمل المدني فحسب، بل هو حوار وطني شامل يسعى للخروج بتوصيات في كافة المجالات، وفي القلب منها مجال الهوية الوطنية.
تبرز أهمية قضية الهوية الوطنية في ظل حاجتنا الشديدة في مصر إلى صياغة أو بناء الشخصية المصرية المنشودة. ولعل الكثير من علماء الاجتماع والسياسة وغيرهم قد تحدثوا عن الشخصية المصرية، أبرزهم على الإطلاق الدكتور جمال حمدان في موسوعته الأشهر «شخصية مصر» من زاوية تميل إلى المناخ والموقع، والدكتور ميلاد حنا من خلال «الأعمدة السبعة للشخصية المصرية» من زاوية الحضارات التي مرّت على مصر عبر تاريخها الممتد.
إلا أن الهوية الوطنية والشخصية المصرية مرّتا بهزّات عنيفة، فليس من الطبيعي أن يمرّ على شعب أو أمة «ثورتان» في أقل من 3 سنوات، يعقبهما تحولات عالمية وحروب واضطرابات دولية وإقليمية وتشكُّل لعالم جديد، كل ذلك بالتأكيد كان له بالغ الأثر على عمق الشخصية المصرية وصفاتها وسماتها النفسية، وهو ما يكسب الحديث عن الهوية الوطنية في الحوار الوطني بعدًا جديدًا وهامًا، ألا وهو الحاجة الشديدة للتوافق على تلك الهوية وأهم ركائز تلك الشخصية.
ومن خلال مشاركتي في الحوار الوطني، متحدثًا ومستمعًا، أجد أن هناك إجماعًا كبيرًا على ضرورة الحديث عن الهوية الوطنية، ولكن هناك انقسامًا في الرأي حول ماهية تلك الهوية، بين من يراها عربية أو قبطية أو رومانية أو فرعونية، وهكذا. وهنا يحضرني وصف دقيق للهوية المصرية بأنها تُشبه إلى حد كبير «السبيكة»، حيث تتألف أي سبيكة من عدة معادن مختلفة، لكنك لا يمكنك فصل تلك المكونات عن بعضها البعض، ليشكّل المزيج من تلك المكونات «منتجًا نهائيًا» أخيرًا ومميزًا وفريدًا.
إذًا ما علينا فعله من خلال جلسات الحوار الوطني في قضية الهوية هو التأكيد على تصالحنا الكامل مع كل الحضارات التي مرّت بمصر، وعبرت على تلك الأرض الطيبة، تعلمنا منها وتأثرنا بها، ولكننا أيضًا أثرنا فيها وأضفنا لها. وما نحتاجه حقيقةً هو البناء على عناصر القوة في كل حضارة مرّت بنا، وما نحتاج إليه حقيقةً أيضًا هو أن ننظر إلى المستقبل بمثل اهتمامنا بالنظر إلى التاريخ.
فإذا تصالحنا مع الماضي وتعلمنا منه وبنينا عليه، ثم نظرنا إلى المستقبل واستشرفنا احتياجات الزمن القادم، يمكننا أن نصوغ الشخصية المصرية التي تنطلق من جذور حضارية ممتدة عبر آلاف السنين، ولكنها لا تُهمل الحداثة والتطور، بل تنهل من نبع علوم المستقبل على اختلافها، لتصنع مواطنًا صالحًا مُنتِجًا يُكمل مسيرة أجداده عبر آلاف السنين ويرسم مستقبلًا باهرًا لمصر التي تستحق دائمًا الأفضل.
عبدالحميد أسامة
أمين لجنة الثقافة والهوية الوطنية بحزب الإصلاح والنهضة.