منذ عام تقريباً، وفى كتابه الصادر فى الثانى والعشرين من شهر أغسطس 2023م، بعنوان «نول الزمن.. بين الإمبراطورية والفوضى، من البحر المتوسط إلى الصين»، طرح عالم السياسة الأمريكى روبرت كابلان أسئلة كثيرة، من بينها التساؤل عن كيفية تعامل دول وشعوب منطقة الشرق الأوسط مع العولمة وعن السبب وراء نسيان هذه الدول والشعوب تاريخها.
وقد زار المؤلف المدن الكبرى بالمنطقة، وبينها القاهرة، وخالط الناس، فجاء الكتاب متميزاً بالحيوية ومعرفة توجهات الناس عن قرب.
وقد أحسن الكاتب الكبير الأستاذ عبدالله عبدالسلام، مدير تحرير الأهرام، بإلقاء الضوء على هذا الكتاب القيم (راجع: عبدالله عبدالسلام، سعد زغلول والقاهرة الجديدة!، جريدة الأهرام، عمود أفق جديد، الأحد 6 من صفر 1446هــ الموافق 11 أغسطس 2024م، السنة 149، العدد 50287).
وجدير بالذكر فى هذا الصدد أن «النول» آلة نسيج يدوية استخدمها المصريون قبل 4 آلاف عام.
ويبدو أن استخدام لفظ «النول» (The Loom of Time) فى عنوان الكتاب مقصود، للتأكيد على أهمية الحفاظ على الهوية الوطنية للأمم والشعوب، وإدراك أهمية التاريخ فى حياة المجتمعات، وأهمية الحفاظ على التراث الثقافى غير المادى.
وفيما يتعلق بالتراث الثقافى غير المادى، والعادات السائدة فى المجتمع المصرى، رصد المؤلف المشهد التالى فى القاهرة 2022م: «لا يزال الرجال والنساء يسيرون فى مجموعات، وأحياناً يمسكون أيادى بعضهم البعض.. يرتدون ملابس غربية بدلاً من ملابس السبعينات وما قبلها، الأقرب إلى الأزياء التقليدية. عدد لا بأس به من الفتيات يرتدين الحجاب والثياب السوداء الضيقة. كانت أذرعهن عارية فى حالات قليلة، كاشفات عن أنفسهن ومتغطيات فى الوقت نفسه».
ورصد روبرت كابلان ملاحظة أخرى فى المجتمع المصرى وغيره من شعوب المنطقة: «فى الشرق الأوسط، ترى طبقة عالمية منتشرة تستخدم الآى فون ويستمعون للموسيقى الغربية. وهناك قطاعات أخرى ترفض العولمة. ربما لأنهم لا يستطيعون المنافسة، أو يشعرون أن ذلك يسىء إلى قيمهم».
وثمة ملاحظة أخرى ثاقبة يبديها المؤلف فى كتابه سالف الذكر، مؤكداً من خلالها أن المصريين ينسون تاريخهم، ومستدلاً على ذلك بالقول: «كان هناك سياسى عظيم فى عشرينات القرن الماضى اسمه سعد زغلول. وخلال الربيع العربى 2011، لم تسمع اسمه على الإطلاق. زغلول قاد ربيعاً آخر ضد البريطانيين لكن لا ذكر له الآن. إنه لأمر مدهش كيف يمكن لجوانب مهمة من التاريخ أن تضيع بين الشقوق». جزء من عدم الاستقرار فقدان الثقافة ونسيان التاريخ. الازدهار فى عصر العولمة يتطلب أن تظل الذاكرة حية.
ولعل ذلك يجعلنا نتذكر إحدى العبارات الشهيرة التى وردت فى رواية «أولاد حارتنا»، للأديب المصرى العالمى الحائز على جائزة نوبل، نجيب محفوظ، والتى صارت قولاً مأثوراً ومثلاً متداولاً يعبر بصدق عن إحدى سمات الشخصية المصرية، وهى (آفة حارتنا النسيان).
فهذه العبارة ليست مجرد بضع كلمات فى رواية أحدثت الكثير من الجدل، وإنما هى ببساطة شديدة اختصار موجز لطريقة تفكير شعب أصبح ينسى كل شىء، وينسى أعظم حضارة أقامها للإنسانية من سبعة آلاف سنة، وينسى العديد من الشخصيات التاريخية التى أثرت كثيراً فى مسيرة المجتمع والدولة المصرية.
فلا نجد حضوراً فى العقل الجمعى المصرى يعادل حضور شارل مان ونابليون بونابرت فى الذاكرة الفرنسية وجورج واشنطن وإبراهام لينكولن فى الذاكرة الأمريكية.
وقد كان أحد الكتاب أكثر تفاؤلاً، وأقل حدة فى وصف الذاكرة الجمعية المصرية، فاستخدم عبارة أخف وطأة، وهى «آفة حارتنا الاختزال»، مؤكداً أن «أحد أبرز الألغاز الذى يستعصى على فهمى، أننا كمصريين عندما نتباهى بعظمائنا، لا تسعفنا الذاكرة إلا باسم أو اسمين فى أى مجال. تاريخ مصر الضارب فى القدم والملىء بالأبطال والعظماء يجرى اختزاله إلى ثنائيات أو أسماء قليلة للغاية.
عندما نستدعى التاريخ الفرعونى المجيد، لا يظهر أمامنا سوى أحمس ورمسيس وربما حتشبسوت، وعندما نقرأ عن أبطال مصر الذين قاوموا الحملة الفرنسية لن تجد سوى عمر مكرم ومحمد كُريم.
فى التاريخ الحديث المصيبة أعظم. عظماء القرن التاسع عشر رفاعة الطهطاوى وعرابى ومحمد عبده، وعلى استحياء على مبارك. زعماؤنا فى القرن العشرين: سعد زغلول وعبدالناصر وفقط، مع أن القائمة تطول وتطول، لكن الذاكرة المصرية مثقوبة ليس فيها متسع.
فى الأدب، هناك طه حسين والعقاد ونجيب محفوظ، والباقون «سنيدة» أو لا يستحقون الذكر.
فى الفن هناك، سيد درويش وأم كلثوم وعبدالوهاب وربما عبدالحليم. أما فى الصحافة، فليس سوى هيكل ومصطفى أمين.
وهكذا الأمر فى الفكر والثقافة والشعر والسينما والمسرح والجامعة والاقتصاد.. هل هناك أحد غير طلعت حرب؟» (الكاتب الكبير الأستاذ عبدالله عبدالسلام، آفة حارتنا الاختزال!، جريدة الأهرام، عمود أفق جديد، السبت 15 من ربيع الأول 1445هــ الموافق 30 سبتمبر 2023م، السنة 148، العدد 49971).
ووفقاً لرأى الكاتب الكبير، «المشكلة أن بعضاً من النخبة المسيطرة على الثقافة والإعلام والصحافة يعانى الكسل العقلى والفكرى، فيلجأ لهذه الانتقائية غير المنطقية التى تستبعد طبقات وطبقات من أكابر المصريين علمياً وثقافياً وفنياً وأدبياً وتحصرهم فى دستة أسماء فقط».
وليت الأمر قد وقف عند حد الكسل العقلى والفكرى لدى «النخبة» أو من يُطلق عليهم هذا الوصف، إذ تفرغ بعض هؤلاء للهجوم على الشخصيات التاريخية المصرية، وهو ما نتناوله فى المقال القادم إن شاء الله.