لم تحقق دولة الاحتلال أهدافها من عمليات جيشها على الجبهة الشمالية ضد عناصر المقاومة اللبنانية المدعومة من إيران، ورغم التعتيم الذى تفرضه إسرائيل على خسائرها، فإنها بلا شك تكبدت الكثير، بالإضافة إلى أزمات متصاعدة فى الداخل من تبعات حرب ممتدة على جبهات متعددة تجاوز عمرها العام، لهذا لم يكن هناك بديل أمام بنيامين نتنياهو وحكومته من المتطرفين غير قبول المقترح الأمريكى بالهدنة مع «حزب الله»، ووقف إطلاق النار بين الطرفين، والذى أصبح سارياً منذ صباح الأربعاء ٢٧ نوفمبر الجارى.
ورغم رفض علنى معتاد لبعض وزراء حكومة الاحتلال من المتطرفين للاتفاق، وموافقة تكتيكية من آخرين يظنون أن الحرب مستمرة، كما كشفت أوريت ستروك، وزيرة الاستيطان، والتى قالت: «إن وقف إطلاق النار فى لبنان مؤقت لخدمة أهداف استراتيجية لا يمكن الكشف عنها».
إلا أن إدراك الجميع فى إسرائيل لطبيعة المرحلة الانتقالية التى يمر بها العالم، بسب عملية التسليم والتسلم التى تجرى فى أروقة البيت الأبيض بين إدارتين، دفعت لاقتناص فرصة (الاستراحة) الإجبارية، فى إعادة ترتيب الأوراق والتقاط الأنفاس بعد ماراثون قتالى غير مسبوق فى تاريخ إسرائيل.
وقد نجح الوسيط الأمريكى المنحاز فى إخراج اللحظات الأخيرة السابقة للإعلان عن موافقة الطرفين على الهدنة بصورة ترضى الغرور الصهيونى وتمنحه شارة المنتصر، وهو ما يتعارض مع حقائق الأمور على الأرض، وهذا التزييف للواقع سيكون بمثابة المسمار الأول فى نعش هذا الاتفاق.
فى المقابل، كان صمود «حزب الله» ومقاتليه وجمهوره واستعادة القدرة على الرد، والردع، فى وقت قياسى وتحت وطأة نيران المعارك، وختامه للعمليات العسكرية بوصلة من الهجوم الصاروخى المرعبة لإسرائيل، فى يوم الأحد الأخير قبل الهدنة، كلها مشاهد لا تمنحه النصر الذى خرج بعض أنصاره يحتفلون به، ولا تكفيه حتى للتعادل فى هذه الحرب، التى لم يحقق أى من طرفيها نصراً ساحقاً يضمن استقرار الأوضاع بعدها، وهو ما يجعلها هدنة «هشة»، أقرب ما تكون إلى استراحة بين المعارك، وليست خطوة على طريق السلام.
لبنان الخاسر الأكبر
وقد أدت الحرب بين حزب الله وإسرائيل إلى مقتل ما يقرب من 4000 لبنانى وإصابة 15699 آخرين وفقاً لتقديرات وزارة الصحة اللبنانية، أما فاتورة الحرب وكلفتها على الاقتصاد اللبنانى فقد وصلت قيمتها إلى 8.5 مليار دولار على مدى الأشهر الـ13 الماضية، وفقاً لتقييم أولى أجراه البنك الدولى، زاد الرقم فى تقديرات وزراء فى حكومة تصريف الأعمال اللبنانية وبلغ ٢٠ مليار دولار.
وأشار البنك الدولى فى تقريره، الذى نشره الموقع الإلكترونى لشبكة (CNN) الأمريكية، إلى أنه «خلال الصراع المستمر منذ أكثر 13 شهراً، نزح أكثر من 1.3 مليون مواطن، 875 ألفاً منهم داخلياً، وكانت النساء والأطفال والمسنون وذوو الإعاقة واللاجئون الأكثر عرضة للخطر. وإلى جانب التكلفة البشرية، تسببت الحرب بالفعل فى أضرار اقتصادية كبيرة: فمن المقدر أنها خفضت نمو الناتج المحلى الإجمالى الحقيقى للبنان بنسبة 6.6% على الأقل فى عام 2024»، وفقاً للتقرير.
وذكر البنك الدولى أن «ما يقدر بنحو 166 ألف عامل فقدوا وظائفهم، وأن ما يقرب من 100 ألف منزل تضرر جزئياً أو كلياً، بقيمة تصل إلى 3.2 مليار دولار من الخسائر والأضرار، إلى جانب خسائر تعطل التجارة والزراعة والتى تُقدَّر بأكثر من 3 مليارات دولار».
خسائر إسرائيل
فاتورة الخسائر الإسرائيلية لا تعكسها أعداد القتلى والمصابين، فالمعلن منهم محدود، وأغلب الأرقام هى تقديرات غير رسمية تتناقلها وسائل الإعلام للحشو، ولا يعول عليها فى قراءة معمقة للمشهد.
فقد فرضت الحكومة الإسرائيلية حصاراً حديدياً حول المعلومات المتعلقة بالخسائر العسكرية منذ بدأت الحرب على غزة ثم استمر التعتيم خلال معاركها فى لبنان. لكن الخسائر الإسرائيلية الفادحة جراء الحرب مع حزب الله لا تخطئها عين، فيكفى فاتورة هجرة مستوطنى الشمال التى تجاوزت نصف مليار دولار.
كما أن سكان الشمال الإسرائيلى لم يستعيدوا ثقتهم فى قدرات جيشهم على توفير الأمن، ولن يتمكنوا من العودة إلى مستوطناتهم بعد إقرار وقف إطلاق النار، وفق استطلاع رأى أجراه معهد «ماجار موحوت» الإسرائيلى وكشف نتائجه موقع قناة «الجزيرة» القطرية، عبّر فيه 70% ممن تم إجلاؤهم من مستوطنات الشمال عن عدم رغبتهم فى العودة إلى منازلهم بعد توقف الحرب.
وتضم مناطق شمال إسرائيل عدة مراكز اقتصادية وحيوية، وبالأخص مدينة حيفا التى كانت فى مرمى نيران «حزب الله». فهى تمثل مركز ثقل تجارى بالغ الأهمية لاقتصاد دولة الاحتلال، وإدخالها وما حولها فى نطاق العمليات العسكرية تسبب فى خسارة تصل إلى 150 مليون دولار يومياً.
وبحسب صحيفة «يديعوت أحرونوت» الإسرائيلية، فإن الكلفة الاقتصادية لحرب إسرائيل على الجبهة الشمالية والتى تصاعدت عملياتها خلال الشهور الثلاثة الأخيرة، «بلغت نحو 9 مليارات دولار، وإن هذه النفقات الكبرى ستتطلب إعادة النظر فى ميزانية إسرائيل مرة أخرى».
لماذا الهدنة الآن؟
فى كلمته بعد وفاة السيد حسن نصر، قال الأمين العام الحالى لحزب الله نعيم قاسم إن «الحرب هى حرب من يصرخ، ونحن لن نصرخ، وستسمعون صراخ العدو»، فهل تكون الموافقة على وقف إطلاق النار فى لبنان، الآن، هى صرخة من إسرائيل؟، أم أن الصراخ لحزب الله؟، أم أن صوت الشعب اللبنانى كان هو الأعلى، وألمه أقوى، وخسائره أكبر من احتماله؟
الحقيقة المؤلمة هى أن الشعب اللبنانى هو الحلقة الأضعف فى هذا الصراع، ولا أحد من طرفى الحرب اكترث لمصابه، فكلاهما الحزب والاحتلال معمى بتعاويذه الدينية، وأفكاره الشيطانية التى يساق بها إلى أتون الحروب غير عابئ بالمصير.
إن ما يفسر ضرورة إسكات السلاح الآن، ليس ما جرى على جبهة القتال، لكنه ما يحدث هناك بعيداً فى البيت الأبيض، وما يدور فى أروقة الإدارة الجديدة التى يشكلها الرئيس المنتخب رقم (٤٧)، دونالد ترامب، العائد بقوة شعبية جارفة، تقلق أقرب أصدقائه وأخلص مريديه.
لهذا كان حرياً بذئب «الشرق الأوسط»، الصادر بحقه مؤخراً مذكرة اعتقال تؤكد أنه جدير بتهمة «مجرم حرب»، رئيس الوزراء الحالى لدولة الاحتلال الإسرائيلى بنيامين نتنياهو، الذى أهَّلته خبرته السياسية الطويلة للقدرة على اتخاذ القرار الصحيح فى الوقت الحرج، فى المقابل فإن إيران الراعى الرئيسى لحزب الله مجبرة لنفس السبب على الصمت الاستراتيجى خلال المرحلة الانتقالية، رغم أن خسائر حزب الله بسبب توقف القتال ستكون أكبر من إسرائيل، التى ستستثمر الفرصة لاستعادة قدراتها القتالية بحرية، فيما سيكون مقاتلى الحزب تحت رقابة مشددة، وفق ما نص عليه اتفاق الهدنة.
نتمنى من قلوبنا للشعب اللبنانى الشقيق والصديق كل السلامة، وأن تخيب الظنون، وتنتقل الهدنة بهم إلى حالة استقرار كاملة تكفل لهم لمّ الشمل واستكمال أركان دولتهم.