لا يذكر التاريخ عنهما كثيراً، ولا تعرفان بعضهما، فالفارق الزمنى بينهما لم يسمح لهما باللقاء والتعارف، لم يجمعهما سوى أنهما سكنتا فى بيتين متجاورين خلال زمنين مختلفين، إلا أن السيدة آمنة بنت سالم، وجارتها التى لم تلتقِها زينب بنت أحمد الجزار، شاء لهما القدر أن تظلا فى ذاكرة القاهرة وسكانها عن طريق طبيب إنجليزى قرّر ربط المنزلين، وضمهما فى أحد أشهر متاحف القاهرة، حاملاً اسمه «جاير أندرسون»، وحافظاً لاسمى السيدتين.
على بُعد خطوات قليلة من مسجد أحمد بن طولون، يحتفظ المتحف الأثرى بمكانه ويُعرف بين أهالى المنطقة بـ«بيت الكريتلية» أو «متحف جاير أندرسون»، وعبر بوابته الحديدية يمكنك زيارته فى جولة تعيدك إلى زمن العصور القديمة.
من الوهلة الأولى فى المتحف، يأخذك سحر الطراز الإسلامى الفريد، وما احتواه من مقتنيات أثرية عكف الطبيب الإنجليزى على جمعها من مختلف العصور، فهى هوايته المفضلة، التى كانت سبباً فى ربط المنزلين ببعضهما، وتزيين الغرف بما جناه من رحلاته حول العالم.
هواية «أندرسون» فى جمع المقتنيات الأثرية لم تتوقف عند حبه للحضارة المصرية، إذ مثلت بعض الغرف حضارات مختلفة، فمن الغرفة الهندية إلى الفارسية، مرواً بالصينية وغيرها من الغرف الممثلة للحضارات الآسيوية بمقتنياتها، التى جمعها «أندرسون» داخل المتحف، لتجعله مزاراً سياحياً.
«الكريتلية» محط أنظار السينما المصرية والعالمية.. من «التوت والنبوت» إلى «جيمس بوند»
تميز المتحف بمقتنياته العريقة جعله محط أنظار لكثير من المخرجين السينمائيين، بداية من فيلم «التوت والنبوت»، مروراً بـ«الناظر»، «جواب اعتقال»، «الفيل الأزرق» وغيرها من الأفلام التى وصلت إلى العالمية، فالمتحف وقع عليه الاختيار لتصوير أحد مشاهد فيلم «the spy who loved me» للنجم العالمى جيمس بوند فى سبعينات القرن الماضى، المعلومة التى سرعان ما يكشفها مشرف المتحف أثناء تجولك، متباهياً بعراقة المتحف الأثرى.
حب الطبيب الإنجليزى للآثار انعكس على حبه لزوجته، إذ خصّص لها غرفة كاملة حملت الطابع الإنجليزى، معروفة بغرفة «الملكة آن»، تحمل لافتة مزيّنة بكلمات «يطرق الحب الباب تدخل الحياة».
رحلتك داخل المتحف العريق تدفعك إلى مزيد من المعرفة حول حكايته، وهو ما عرضته ميرفت عزت، مدير عام متحف جاير أندرسون، خلال حديثها لـ«الوطن»، موضحة تاريخ المتحف الذى يرجع أصله إلى منزلين متجاورين من العصر العثمانى، أحدهما بناه الحاج عبدالقادر الحداد، وتاريخه يرجع إلى 1540، وتعتبر «زينب» آخر من سكنه، أما المنزل المجاور فللحاج محمد بن سالم الجزار وأسسه 1642، وآخر سكانه هى السيدة «آمنة».
ومع بداية عام 1920 قررت دار حفظ الآثار توسعة مسجد أحمد بن طولون، عن طريق هدم ما حوله، لكن الحالة الجيدة للمنزلين المتجاورين، واحتفاظهما بكثير من العناصر المعمارية الأثرية، جعلت الدار تتراجع عن هذا القرار، وفقاً لـ«ميرفت».
تزامن ذلك التاريخ مع وجود الضابط الطبيب جاير أندرسون فى مصر، الذى جاء مع الجيش الإنجليزى فى عام 1906، وربطته علاقة صداقة مع الملك فاروق، وحسب ما ذكرته مديرة المتحف، أنه فى إحدى جولات الطبيب الإنجليزى بالقاهرة التاريخية، أُعجب بالمنزلين المتجاورين، ومن الحكايات الشائعة فى ذلك الزمان، هو مرور «الخواجة» من أمام المنزل ليرى امرأة ترتدى البرقع وتطل عليه من مشربية المنزل فوقع فى غرامها، وقرّر وقتها التواصل مع دار حفظ الآثار ليربط المنزلين ببعضهما بواسطة كوبرى، ليصبح منزله المفضل الذى يجمع بداخله مقتنياته الأثرية المهووس بجمعها، وظل فى المنزل حتى عام 1942، ثم غادر مصر نهائياً.
وفى عام 1943، تحول المنزل إلى متحف يحمل اسمه، إذ يتكون من 29 قاعة، تضم كل منها قطعاً أثرية نادرة وتعبر عن حضارات مختلفة، ووصفته مديرة المتحف بأنه أشبه بمجمع حضارات مصغر، إذ توجد غرف تحتوى على آثار ما قبل الأسرات، حتى عصر محمد على، وغرف أخرى تحتوى على آثار للحضارات مثل الهندية والفارسية والبيزنطية، والإنجليزية المتمثلة فى غرفة «الملكة آن»، والحضارة الدمشقية.
وانتقلت مديرة المتحف فى حديثها عن الأنشطة المختلفة الهادفة إلى جذب كثير من الطلاب والزوار، إذ توجد بعض الورش الخاصة بالحرف اليدوية للسيدات، مثل الكروشيه والخرز والحلى، بالإضافة إلى وجود أنشطة لذوى الاحتياجات الخاصة، أما عن حالة المتحف، فأوضحت «ميرفت» أن آخر ترميم شهده كان فى عام 2000، وحالياً يخضع للتطوير مع منظمة اليونيسكو، ويشمل ترميم معمل الآثار وبعض الخدمات، مثل دورات المياه.
تنتهى بك الرحلة التاريخية عند البوابة الحديدية للمتحف، حيث تراصت أمامه الدكاكين الصغيرة الشاهد بعضها على تاريخه العريق، وتهافت الفنانين على زيارته لتصوير مشاهدهم الفنية بداخله.
بمرورك من أمام بوابة المتحف تجده جالساً داخل محله الصغير، الذى ورثه عن والده، بعدما قرر تحويل نشاطه من «ترزى رجالى» إلى محل للأدوات المنزلية البسيطة، هكذا قرّر الرجل الستينى أحمد عشماوى أن يقضى ما تبقى من حياته بعدما أحيل للمعاش، متذكراً مظاهر حياة اشتاق إليها.
مجرد ذكرك لاسم المتحف فى الحديث مع الرجل الستينى، يبادرك بذكر قائمة طويلة من الفنانين قديماً: «أغلب الفنانين جم هنا.. فريد شوقى ونبيلة عبيد ويونس شلبى ونجلاء فتحى وغيرهم كتير»، لكن قدوم الفنان الراحل يحيى شاهين هو الأقرب إلى قلبه، حين صور بعض المشاهد من ثلاثية الأديب نجيب محفوظ بداخله.
ورغم ما حفظه «عشماوى» من معلومات تاريخية عن متحف جاير أندرسون، عبر وسائل الإعلام المختلفة، إلا أن قدمه لم تطأ المتحف سوى مرة واحدة: «الكلام ده كان زمان أوى، بس لسه فاكر تصميمه الإسلامى الجميل».
يجاور «عشماوى» محل آخر يقبع داخله محمد سيد، يعمل على إصلاح الكهرباء، فهى مهنته التى لا يملك سواها، وهو أيضاً من سكان الحى العريق، متباهياً بحضور كبار الفنانين للمتحف صاحب الشهرة الواسعة: «فيلم سعد اليتيم متصور هنا».
ربما تصوير كثير من الأفلام داخل المتحف تسبّب فى قلة زيارة «محمد» له، مكتفياً بالمشاهد التى يراها، فهو لا يملك من يومه سوى ساعات قليلة للراحة: «دخلته مرة واحدة من 25 سنة»، لكنه يحوز مكانة مميزة فى قلب الرجل الأربعينى، سعيداً بكل ما شهده من تطوير يزيد من جماله للزائرين.