علاقات و مجتمع
كان يفترض أن تأخذ حياة «فاطمة فتحي» شكلاً روتينياً كأي ربة منزل تزوجت وأنجبت وتفرغت لأمور أسرتها الصغيرة، ولكن حاجة بيتها وضيق ذات اليد غيّر مجرى حياة الأم التي تستهل عامها الأول في الثلاثينات، بات الشارع ملاذها الوحيد لكسب قوت يومها حتى انخرطت بين تفاصيل عالمه التي لم تنل من هدوئها ولم تغير في طباعها سوى أن زادتها قوة وأكثر تحملا للمسؤولية، تغدو إليه نهارًا وتغادره قبل ساعة واحدة من منتصف الليل.
تعلمت الكروشيه لمساعدة زوجها
قبل ست سنوات تقريبا، تغيرت مجريات الأمور في أسرة «فاطمة»، أو «أم أنس» كما تعرف بين جيرانها زادت مطالب طفليها «نور وأنس» وتزعزع استقرار زوجها في عمله، فما كان منها إلا أن اقتسمت الحِمل معه وشاركته المسؤولية، وبدأت مشروعها الخاص الذ شَيَّلَ قلب زوجها وجيرانها إعجابا بها ودعما لها.
«من وقت ما اتجوزت مكنتش بشتغل بس لما بيتي احتاج فكرت أشتغل ولقيت الحاجة الوحيدة اللي بحبها وأقدر أتعلمها من تاني هي الكروشيه»، هكذا بدأت الأم حديثها لـ«الوطن» بينما كانت في منزلها منهمكة في غزل خيوط الصوف لتنتهي من تقفيل الشنطة الكروشيه التي طلبتها إحدى زبائنها.
كوفيات وملابس للحيوانات بالكروشيه
تتعدد أشكال المشغولات التي تغزلها بإبرة واحدة، «بعمل شنط ومفارش وكوفيات وطواقي وكمان لبس للقطط والكلاب حسب طلب الزبون، اللي بيقول عليه بنفذه»، لا يستعصي عليها طلبا، تتفاوت الفترة التي تستغرقها لصنع كل قطعة حسب حجمها وتصميمها، «في حاجات بتحتاج ساعة أو ساعتين وفي حاجات بتاخد يوم أو يومين كاملين حسب الشكل والحجم»، عبارة قالتها وهي تسابق الوقت للانتهاء من تسليم شنطة نسائي أوصتها عليها إحدى زبائنها.
في بداية الفكرة، اكتفت الأم الثلاثينية بتسويق منتجاتها بين جيرانها ومعارفها على مستوى المنطقة، لم تجد في ذلك ربحا كبيرا يضاهي الجهد المبذول منها، حتى قررت اللجوء إلى الشارع كساحة مفتوحة أمامها لترويج منتجها المصنوع بـ«حب»، دعمها في ذلك زوجها وكافة أفراد أسرتها.
بداية نزول الشارع للعمل
اتخذت «فاطمة» من سور إحدى المدارس الابتدائية المحيطة ببيتها مكانا لتسويق بضاعتها أمام المارة عامة وأولياء الأمور من الأمهات خاصة، عسى أن تجذب أنظارهن الشنط والكوفيات ذات الألوان المتداخلة فيشترين منها قطعة أو ما يزيد إلا أن ذلك لم يكفي أمام زيادة مطالب أطفالها، «مكنش البيع كفاية على باب المدرسة، فكرت أنزل أقعد على كوبري أرض اللواء عشان أسوق لعدد أكبر من الزباين اللي رايحة وجاية طول اليوم على الكوبري»، إلا أن القرار سبقه تردد وحيرة سرقت النوم من عينيها ليال كثيرة.
«أول يوم نزلت الشارع كنت خايفة جدا الناس متتقبلش شغلي وكنت قلقانة معرفش أبيع»، كلمات قليلة لخصت بها «أم أنس» بداية اختلاطها بالشارع وروداه لكسب قوتها، وبالفعل وجدت الأم ضالتها في «قعدة الكوبري»، زاد الإقبال عليها وانتعش البيع على عكس مخاوفها السابقة، «لقيت ناس كتير بتشجعني وتقولي شغلك حلو وزادت الطلبات وزاد الشغل».
يومها يبدأ من السادسة صباحا
مبكرا وقبل أن يستيقظ أطفالها، يبدأ يوم فاطمة في السادسة صباحا، تعد الفطور لصغيريها وتودعهم بقبلة وحضن على باب المنزل، وتتجه صوب غرفة حولتها إلى ورشة صغيرة لشغلها، امتلأت بشتلات خيط وإبر كروشيه، الأدوات المبعثرة حفظت طريقها فلا تهتم بترتيبها يومًا، تقضي نحو ثلاث ساعات أو ما يزيد أمام ماكينة الخياطة لخياطة بطانات الشنط وما أن يرتفع صوت المؤذن لرفع آذان الظهر تهم بإعداد حقيبتها في عجالة تضع فيها البضاعة التي انتهت منها وتتجه صوب المكان الذي تستقر به أعلى كوبري مشاه أرض اللواء.
بمجرد وصولها إلى نقطة استقرارها في منتصف الكوبري، تستغرق الأم الثلاثينية نحو ربع ساعة فقط في رص بضاعتها في عجالة على «فرشة» خشبية تقضي أمامها ساعات اليوم كله حتى منتصف الليل، تلفت الشنط والكوفيات الملونة أعين الفتيات فيقفن للشراء وتفتح معهن حوارا قصيرا لتعريفهن بمشروعها الصغير، «أوقات بيطلبوا مني أنفذ ليهم أشكال معينة وبتفق معاهم على وقت الاستلام» حتى باتت معروفة بين الفتيات من رواد الكوبري سواء من سكان المنطقة أو المارة عليها في طريق عملهن.
في لحظاتِ الوهن- التي نادرا ما تراودها- تمنت لو يُثَمِّنُ أحدهم إنجازها الصغيرفتتجدد طاقتها وتستمر في ما تعمل وما تُحب، وما أن ترى زبائنها من الفتيات والسيدات صنع يديها بالشكل والطريقة اللاتي أوصينها بتنفيذها تتسع أعينهن فرحا وتطلق ألسنتهن بالشكر والمدح على صنيعها، «كلمة تسلم إيدك والفرحة اللي بشوفها في عيون الزباين بتهون عليا تعب اليوم كله وبتشجعني أكمل»، تقول بابتسامة خفيفة ارتسمت على وجهها.
أحلام فاطمة
أحلامها بسيطة تشبه بضاعتها تماما، إذا عادت إلى طفليها حاملة لهم الحلوى والطعام الذي يحبونه كأنها ملكت الدنيا وما فيهاـ «أنا بنسى تعب القعدة في الشارع وبرد الشتا وحر الصيف بمجرد إني أجيب لولادي الحاجة اللي بيحبوها»، تتمنى فقط انتشار شغلها وزيادة شعبيته، «نفسي مشروعي يكون ليه تسويق ومحل كبير للبيع»، بحسب تعبيرها.